أوباما هو أوباما. ليس متردداً كما يقال عنه. بل يعرف ماذا يريد. وقد اختار إيران. ليس فقط من أجل اتفاق «يمنعها» من الحصول على سلاح نووي، إرضاءً لإسرائيل. إنما بالأخص لأنه يريدها حلقة في استراتيجيته الموجهة نحو الشرق الأقصى. ومن أجل ذلك تركها تستغلّ شهور المفاوضات لتنفيذ أكثر خططها كارثية بالنسبة إلى العرب. انسحب من العراق وتركها تعيث فيه فساداً. وتعمّد خيار «اللاسياسة» حيال سورية فساعد الإيرانيين على تدميرها واختطافها والتلاعب بوحدتها ومستقبلها. لا مانع لديه من أن تكون إيران «شريكاً» في محاربة الإرهاب على رغم أن تقارير إدارته لا تزال تعتبرها مصدراً رئيسياً للإرهاب، وهو لم يجارِ إشارات عدد من جنرالات البنتاغون إلى علاقات إيران مع تنظيمي «القاعدة» و «داعش». ومن أجل إيران فرض أوباما على ديبلوماسيته التفرّج على عبث الحوثيين ومغامراتهم من دون أي إنذار ولا حتى تنبيه إلى أخطار مباشرة ومتعمّدة مما يحصل في اليمن على حليف قديم مثل السعودية. اعتمد أوباما على إيران في سياسة إضعاف للعرب وتخريب لبلدانهم، وإيران اعتمدت على «عقيدته» القائمة على عدم التدخل وعدم الذهاب إلى أي حرب واعتبرت أن لديها ضوءاً أخضر لـ «التصرّف» مستخدمة قنبلتها المذهبية أسوأ الاستخدامات. وليس عند الرئيس الأميركي ما يلتزمه - أو بالأحرى ما لا يلتزمه للخليجيين سوى «التصدّي لتصرّف إيران المزعزع لاستقرار المنطقة. كيف سيتصدّى؟ لا هو ولا أحد في إدارته يعرف، ولا حتى رجل إيران روبرت مالي الذي ضمّه أخيراً إلى فريق مستشاريه، فالجميع يعرف أنه يعرف شيئاً واحداً وهو أنه لن يفعل ولا ينوي أن يفعل شيئاً، وأن هاجسه الرئيسي أن يحصل على «الاتفاق النووي»، وعدا ذلك لا يهمّه كيف سـ «تتصرّف» إيران بهذا الاتفاق. ليس بين انشغالات أوباما أن تخرج إيران من المفاوضات النووية وقد أصبحت «دولة طبيعية» مسؤولة ومشاركة في الاستقرار الإقليمي ومؤهلة للعودة إلى المجتمع الدولي. لذلك، لم يهتم الرئيس الأميركي يوماً بمسألة الحدّ من تدخل إيران في شؤون جيرانها القريبين والبعيدين في العالم العربي، بل اعتبر هذا التدخل من وسائل الابتزاز لـ «الحلفاء العرب» ومن الامتيازات التي يُفترض أن يتركها لـ «الشريك الجديد» تسهيلاً للاتفاق النووي. كان ذلك من لوازم المساومة: أميركا تفاوض بحذر، غارقة في التفاصيل التقنية، محجمة عن ممارسة أي ضغط على الطرف الآخر، حتى أن الوفود الأخرى تتهكّم على علاقة «غرام سياسي» نشأت بين جون كيري ومحمد جواد ظريف. أما إيران فتفاوض دائماً بعناد على قنبلة ليست لديها وتريد الحفاظ على إمكان الحصول عليها بـ «تواطؤ» من يتفاوضون معها، مراهنةً على تهديد مستتر بإمكان انفراط عقد مجموعة الـ5 + 1، وبالتالي نسف المفاوضات. ذاك أن روسيا والصين تحتضنان إيران وتتعاملان معها كما لو أن العقوبات غير موجودة أصلاً، بل يمكن القول أن لهاتين الدولتين الكبريين مصالح مضمونة في إيران سواء فشلت المفاوضات أو نجحت. بعيداً من طاولة المفاوضات كان «الحرس الثوري» يشغّل القنبلة الأخرى في مشروع «الهلال الشيعي» الذي أعلن محمد علي جعفري أخيراً أنه «تبلور» و «على وشك الاكتمال رسمياً»، أي أن «الحرس» أنجز مخطط الحرائق والتخريب من خلال «حوثنة» اليمن، من دون أن يعني ذلك أنه يتوقف هنا أو أنه اكتمل نهائياً. أما على الطاولة فبدا الأمر بمثابة مساومة مختلفة تماماً عما تخيّله العرب وعما أوحت به التصريحات الأميركية الرسمية. ففي مقابل إطلاق الأميركيين يد إيران في العراق كان بإمكانهم أن يتوقّعوا منها موافقة على خفض نسبة تخصيب اليورانيوم، وأن يطالبوا بخفض عدد أجهزة الطرد المركزي مقابل عدم ضرب النظام السوري بعد استخدامه السلاح الكيماوي، وبتجميد العمل في مفاعل «آراك» للمياه لثقيلة مقابل السكوت على دور إيران في سورية، وبالموافقة على شروط الرقابة والتحقق من تطبيق إيران التزاماتها في الاتفاق مقابل عدم عرقلة سيطرة الحوثيين على اليمن، وأخيراً بقبول الوتيرة المقترحة لرفع العقوبات مقابل غضّ النظر عن التدخل «المذهبي» في الحرب على «داعش» في العراق وكذلك عدم فتح ملفات علاقة إيران بالمجموعات الإرهابية. تتضارب التوقعات لما ستخرج به القمة الأميركية - الخليجية في كامب ديفيد، لكن الحذر يشوب النتائج، فالأكثر وضوحاً فيها أمران: عدم عرقلة مسار الاتفاق النووي المرتقب، ومبيعات أسلحة مسرّعة (وفقاً لمسودة بيان القمة) لمواكبة تطورات «عاصفة الحزم». وعلى رغم أن أوباما يريد التسلح ضد الكونغرس بموافقة خليجية على اتفاق نووي «قابل للتحقق من صدقيته»، إلا أنه ليس مؤكداً أن يستجيب مطلباً بحصول دول الخليج على الامتيازات التقنية نفسها التي يستعد لمنح إيران إياها بموجب ذلك الاتفاق. أما بالنسبة إلى الأسلحة فإن الصحف الأميركية عكست تحفظات الإدارة مستخرجة للمناسبة الإشكاليات المحتملة مع الكونغرس الذي يحرص بشدّة على التفوّق الإسرائيلي في المنطقة، لكن ماذا عن التوازن العسكري الخليجي مع إيران نفسها فهو موضوع البحث هنا، وكيف تتصوّر أميركا «الدفاع عن حلفائها» كما سبق لأوباما وكيري أن التزما علناً، بمجرد بيعهم أسلحة؟ على رغم بعض الخطوات الأميركية في بداية «عاصفة الحزم»، إلا أن السعودية ودول الخليج المتحالفة معها لم ترَ أميركا «الشريكة» في رعاية المرحلة الانتقالية، ولم تتعرّف خلال الأسابيع الماضية إلى أميركا «الحليفة» المدركة خطورة ما هو حاصل في اليمن ومن خلال اليمن، بل وجدت أميركا تتقصّد التبريد والتقليل من سخونة الحدث لئلا يؤثر في قوة الدفع نحو إنجاز اتفاق نووي. وما دامت حسابات أوباما إيرانية قبل كل شيء فإنه سيجد أوباما صعوبة في إقناع قادة الخليج بصدقية التزامه أمن دولهم، لأن سيرته طوال ولايتيه لم تكن مطمئنة في العراق ولا في سورية ولا في اليمن ولا حتى في ليبيا أو البحرين، وهو لم يحبّذ توقيع اتفاقات دفاعية مكتوبة وموثّقة مع دول الخليج، ومن الواضح أنه لا يريد إطلاق رسالة قوية في اتجاه إيران، بل يبحث عن طمأنتها برسالة من كامب ديفيد عنوانها «الانفتاح والتطبيع» معها خليجياً «في حال توقفت عن تهديد أمن المنطقة وسلامها». كانت دول الخليج تأمل بأن لا يتعرض أمنها للتهديد أصلاً، بأن يكون تحالفها مع أميركا كافياً كردع مسبق لإيران، ولا شك في أنها تأمل اليوم بأن تتوقف أميركا عن ممارسة دور المتفرّج على التدخلات الإيرانية من دون أي رد فعل. هناك فارق كبير بين تعامل أميركا مع الأزمة اليمنية كفرصة لمبيعات الأسلحة وبين كونها صراعاً إقليمياً ينبغي أن يكون موقفها منه محسوماً. أما الموقف الغامض أو المائع فلا يعني الحد من هذا الصراع، بل التشجيع عليه للإفادة منه. وهذا ما كان عليه نهج أميركا في الصراعات الأخرى التي أشعلتها إيران، وكان متوقعاً أن تتطرق قمة كامب ديفيد إليها أيضاً. ومنها «الحرب على داعش» التي لم تطمئن دول الخليج إلى الطريقة التي تُدار بها من جانب أميركا. لكن هناك خصوصاً الأزمة السورية التي يبدو أن أوباما غيّر بعض خياراته فيها لإرضاء السعودية، لكن من دون التخلي تماماً عن الغموض الذي يعزوه كثيرون إلى أن أوباما يعوّل على دور لإيران، بعد توقيعها الاتفاق النووي، لكنه يعلم أو يُفترض أن يعلم أن أي تسوية في سورية لن تستقيم فقط بمجرد تفاهم أميركي – إيراني.
مشاركة :