تحول كبير تشهده المنطقة من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى النفسية بسقوط رمزية الولي الفقيه أو المرشد الأعلى تحت أقدام المنتفضين. بعد اليوم لا يمكن الحديث عن قداسة الخميني ولا خامنئي. هناك إجماع على أن الجدار النفسي الذي كان يحصّن سلطة الإمام من غضب الجماهير، قد انهار نهائيا. اليوم، بات صدى شعار “الموت للمرشد الأعلى” يتردد بصوت عال في شوارع طهران، بعد أن عادت إليها الاحتجاجات. وما يقلق النظام أكثر أن هذا الشعار، الذي رفع لأول مرة في احتجاجات أواخر العام 2017، يأتي متناسقا مع شعارات قادمة من لبنان والعراق رافضة للتواجد الإيراني فيهما وكاسرة لاحتكار طهران لدور حامية الشيعة. قداسة زائفة منذ 40 عاما، ونظام الملالي في إيران يحيط نفسه بهالة من القداسة الزائفة التي استطاع أن يحمي بها وجوده ويرسخ بها نفوذه في الداخل والخارج. تحول النظام إلى حالة كهنوتية تتحكم في مصائر الناس باسم الدين والمذهب. مارس أبشع أشكال الدكتاتورية في حق مواطنيه تحت شعارات القدسية المصطنعة التي ادعاها، والتي ساعده على تكريسها المستفيدون من غطائه العقائدي ضمن منظومة تشكيلات العمل الثوري التي تكونت منها طبقة اقتصادية تتحكم في موارد الدولة. وتمركزت داخلها تيارات عرقية عنصرية تطمح إلى استعادة التوسع الإمبراطوري الفارسي بخطاب وجد لفترة ما صداه في الداخل المطحون بآلة القمع والفقر والحرمان. العراقي لم يعد يقبل بأن تقوده حكومة تدار من طهران، ولا اللبناني يقبل بأن يستمر في الخضوع لنظام جزء منه يخضع لأوامر الولي الفقيه، حتى الإيراني حرق صور الخميني ووصف خامنئي بالدكتاتور ابتدع الخميني نموذجا للحكم يعتمد على ولاية الفقيه، ورغم أن الدستور يعتبر الشعب في إيران مصدرا للسلطات، فهو الذي ينتخب رئيس الجمهورية ونواب البرلمان وأعضاء مجلس الخبراء، لكن حاكميته تبقى في مرتبة دنيا أمام حاكمية الله التي يمثلها المرشد الأعلى، حيث تقول المادة 56 من دستور إيران “السيادة المطلقة على العالم وعلى الإنسان لله”، أما الشعب فيمارس حق السيادة “الممنوح له من قبل الله” بما لا يختلف مع الشريعة. المذهب لدى الخميني هو الوقود الذي يحرّك المشروع القومي الفارسي، وهو الذي كان قال مع بداية ثورته التي وصلت به إلى الحكم المطلق للبلاد في فبراير 1979 “لقد حكم هذه المنطقة، الأتراك لعدة قرون والأكراد لعدة قرون، والعرب لعدة قرون، وآن للفرس أن يحكموها لقرون طويلة”. برز الخميني في مقدّمة المشهد كظل لله في الأرض وكنائب للمهدي المنتظر صاحب الزمان في عقيدة الإثني عشرية، وكوصي على الطائفة والمذهب داخل إيران وخارجها، وكمهيأ لطريق العودة أمام الإمام المهدي، بما يعنيه ذلك من تحوله إلى مبعوث إلاهي للمساعدة على إتمام رسالة الإسلام كما يراها. في التاسع من أغسطس 1984 قال الخميني في كلمته في ذكرى مولد الإمام الرضا، الإمام السابع عند الشيعة، «إني متأسف لأمرين أحدهما أن نظام الحكم الإسلامي لم ينجح منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، وحتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستقم نظام الحكم كما ينبغي"، مؤكدا بذلك على ما كان قاله في كتابه "كشف الأسرار"، "واضح أن النبي لو كان قد بلغ بأمر الإمامة طبقا لما أمر الله به وبذل المساعي في هذا المجال لما نشبت في البلدان الإسلامية كل هذه الاختلافات والمشاحنات والمعارك، ولما ظهرت خلافات في أصول الدين وفروعه”. كانت العصبية المذهبية السلاح الأقوى الذي اعتمده الخميني في ضرب العصبيات العرقية والقبلية والجهوية في بلاده التي تضم الفرس والعرب والأكراد والبلوش واللور والتركمان والأذريين وغيرهم، ولتغليب العنصر الفارسي الذي لا يتجاوز 50 بالمئة من عامة الشعوب الإيرانية البالغ تعدادها 80 مليون نسمة، كان لا بد من اعتماد المذهب الذي يجمع 80 بالمئة من الشعب، بما يعني أن جدواه تبدو أكبر من جدوى العرق. مظلومية زائفة لتأكيد قوة الاعتماد على الناحية المذهبية الطائفية، اتجه الخميني إلى تعويم مشاغل شعبه في طموحات إقليمية استهدفت بالأساس العرب، واتسعت إلى غيرهم من الشعوب والقوميات، من خلال رفع جملة من الشعارات الثورية كالدفاع عن المستضعفين ضد الاستكبار العالمي، ورفع المظلومية عن الشعوب والطوائف، والتحالف مع قوى التحرر في العالم، ودعم المقاومة ضد إسرائيل. اكتسب الخميني، ومن بعده خلفه خامنئي، مكانة تحيط بها هالة من القداسة المصطنعة التي كان الإخوان المسلمون من أول المبشرين منها، عندما رأوا فيها انتصارا للإسلام والمسلمين، حتى أن المرشد العام الأسبق للجماعة عمر التلمساني أكد في العام 1984 عندما كانت الحرب العراقية الإيرانية في أوجها “لا أعرف أحدا من الإخوان المسلمين في العالم يهاجم إيران”، بينما اعتبر يوسف القرضاوي نفسه في كتابه “أمتنا بين قرنين”، انتصار الثورة الإيرانية من ثمرات الصحوة الإسلامية، قائلا “لقد أقام الخميني دولة للإسلام في إيران، وكان لها إيحاؤها وتأثيرها على الصحوة الإسلامية في العالم، وانبعاث الأمل فيها بالنصر”. ليس خافيا أن النظام الإيراني استفاد من التحولات الكبرى في المنطقة، حيث استعان بخبراء من الاتحاد السوفييتي المنهار في تطوير صناعته الحربية، ومن احتلال العراق في توسيع مجاله الحيوي في المنطقة العربية، ومن التشدد السلفي السني في تلميع صورته كقوة تحارب الإرهاب، دون الانتباه إلى الإرهاب البديل الذي كان يغرسه من خلال الميليشيات الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها. واستفاد النظام الإيراني من فشل السياسات الأميركية سواء في أفغانستان أو العراق، ومن دعم واشنطن لإسرائيل ما جعله يحظى بإعجاب نسبة مهمة من العرب من تيارات مختلفة بما فيها القومية واليسارية، التي رأت فيه نموذجا لاستقلالية القرار الوطني الذي تطمح إليه. وكان واضحا أن المشروع الإيراني عرف كيف يستغل حالة الجمود التي واجهها الفكر الديني السلفي السنّي منذ عقود خلت بسبب تقوقعه حول مفردات من خارج العصر وإبداء تناقضاته مع التحولات العلمية والتقنية والفكرية والفلسفية التي يشهدها العالم، وانتشار الخطاب الدعوي التكفيري الملتحف بغبار الماضي والذي لا يخلو من عداء لبقية المذاهب والطوائف بما في ذلك تلك المرتبطة بالشيعة العرب. تراجع القوة اليوم، انقشع الضباب وعرفت الشعوب طريقها. وارتخت قبضة النظام الإيراني. لم يعد العراقي قابلا بأن تقوده حكومة تدار من طهران باسم الانتصار للطائفة، ولا اللبناني يقبل بأن يستمر في الخضوع لنظام طائفي جزء منه يخضع لأوامر الولي الفقيه، حتى الإيراني خرج إلى الشوارع ليعلن تمرّده على حكم المرشد الأعلى وليحرق صور الخميني ويصف خامنئي بالدكتاتور. إن أولى خطوات الإطاحة بالأنظمة العقائدية الاستبدادية هي نزع القداسة المصطنعة عنها وإسقاط الحاجز النفسي الذي كان يحميها من غضب الجموع، وهذا ما حدث في إيران والمنطقة، وستكون له آثاره المهمة والحاسمة في صناعة المستقبل.
مشاركة :