كان يفترض أن يثير الرسم الكاريكاتوري لمواطن مصري يرفع لافتة برسم البيع يقول نصها «ثورة موديل 2011! استعمال جيش وإخوان. رخصة موقـــتة. عداد 90 مليون كيلومتر. مقلوبة مرتين»، الضحك والابتسام، إلا أنه لم يثر سوى العبوس والاكتئاب ومزيداً من الإحباط. ألف يوم من الثورة التي دفعت ملايين المصريين إلى الخروج إلى الشوارع رقصاً وغناء وابتهاجاً بما تصوروا أنه نجاحها بتنحي الرئيس السابق حسني مبارك مرت كأنها ألف سنة، فالغطاء الفولاذي الذي نجحت الثورة في إزاحته عن سطح مصر كشف عما يصول ويجول في باطنها ويفتك بجسدها ويهاجم خلاياها ويدمر مفاصلها على مدى عقود مضت. مضت غبطة الثورة الأولى، وانحسرت غمة المرحلة الانتقالية الأولى، وانقضت فرحة الانتخابات الديموقراطية الأولى، واتضحت الفرقة الوطنية بموجات الاستقطاب الديني الرسمي الأولى، وانكشفت جهود تحويل مصر إلى مشروع للأهل والعشيرة «الإخوانية» للمرة الأولى، وتجلت صحوة المصرييين الوطنية تجاه ما يحاك ضدهم من الداخل والخارج بتفويض شعبي للجــــيش للمرة الأولى، وهبت رياح الثورة الثانية، وتقــــبلت الغالبية مغـــــبة المرحلة الانتقالية الثانية، وتجذرت قواعد وأسس الفرقة الوطنية باشتعال الاستقطاب الديني للجماعة وحلفائها للمرة الثانية، وانكشفت جهود الجماعة لاستعادة مصر لتطبيق مشروعها «الإخواني» عليها للمرة الثـــانية إن لم يكن بالاعتصام والتظاهر فبالاعتماد على شباب الجامعات و «الألتراس»، وإن لم يكن كذلك فبالإرهاب والتفخيخ، وإن لم يكن كذلك فبتفكيك الجيش وتقويض الشرطة، وإن لكن يكن كذلك فبتفجير مصر برمتها. وفي مناسبة مرور ألف ليلة وليلة من الثورة، نسي المصريون أو تناسوا شعار الثورة برمته، فتحت وطأة الإرهاب المحدق أرجأوا حلم رغيف العيش الآدمي، وأمام ميكيافيللية الجماعة لاستعادة السلطة جمدوا أمل الحرية، وبما ان تشابك العراقيل الأمنية والسياسية والاقتصادية أفضى إلى قائمة أولويات مغايرة، فقد تنازلوا موقتاً عن أمنية العدالة الاجتماعية. إلا أن موجة التنازل والتجميد والتجاهل الشعبي لمطالب الثورة بعد مرور ألف يوم ليست منزوعة العواقب الوخيمة، إذ نتجت عنها آثار عكسية بالغة وعوارض جانبية عارمة وانتكاسات اجتماعية قاتمة، فرغم الترفع الشعبي الواضح عن خلافات الدستور ولجنة الخمسين، إلى الرأفة المجتمعية غير المسبوقة بحكومة حازم الببلاوي التي لا يشعر بها أو بوجودها أو بقراراتها أحد، إلى التنزه الوطني الخارق ورفع مبدأ «عفا الله عما سلف» في ما يختص بالشرطة، إلا أن الألف ليلة وليلة أسفرت عن اعتلال مزاجي شديدي، وتنفيس عصبي عنيف، واستنفار نفسي بليغ. وإذا كان أستاذة الطب النفسي رصدوا في مؤتمر لهم قبل عام كامل حالاً من الاعتلال المزاجي ضربت جميع طوائف المصريين وجعلت الغالبية تتوقع الأسوأ وحذروا من أن استمرار هذا الاعتلال من شأنه أن يؤدي إلى اضطرابات سلوكية جماعية وحال من العنف العام تلحق الضرر بالبلاد والعباد، فقد حدث هذا بالفعل. فضبابية المشهد، وتكرار حوادث الإرهاب، وتربص أنصار «الشرعية والشريعة» بتفاصيل الحياة لعرقلتها بغرض عودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى القصر، والمرور المشلول، وتطبيق القانون المفقود، والمصالح الحكومية المعتلة بالفوضى، والأسعار الجنونية بلا أمل واضح لتعقلها يلوح في الأفق باتت تدفع المصريين بعد ألف يوم من الثورة على اتباع نظرية الأواني المستطرقة للتنفيس عن إحباطهم وغضبهم في بعضهم بعضاً. لسان حال الشوارع حيث الخناقات المرورية، وعنف القيادة، وتربص المواطنين ببعضهم بعضاً لافتعال المعارك بغرض تفريغ شحنات الغضب تعبر عن نفسها على مدار اليوم. لكن ما يفرغه المواطنون في الشارع نهاراً يعودون إلى بيوتهم ليلاً ليحملوه في عملية إعادة شحن من قنوات إعلام محذرة من موجات إرهاب جديدة، وهجمات «إخوانية» شديدة، وتربصات دولية رهيبة، وقنوات أخرى محذرة من موجات انتقامية ضد «الناس بتوع ربنا»، وهجمات علمانية فريدة. أجواء التربصات والهجمات والإرهاب بعد ألف ليلة وليلة من الثورة تعصف بأعصاب المصريين عصفاً. وحتى اختيارهم الطوعي لتجاهل سفسطة الدستور، وفلسفة النخبة، وغوغائية الأخوة (والأخوات) في أحداث الجامعات، ومصمصة القدرة حيث لم يعد هناك إلا أقل القليل من المدخرات لم يعد يكفي. ومسألة ان الثورة كاشفة ويحسب لها انها كشفت الستار عن المتلونين والمتحولين والفاسدين والملتحفين برداء الدين وهواة ركوب الموجات الثورية لم تعد قادرة على سد رمقهم أو بل ريقهــــم بأمل ما يلوح في نهاية النفق الثوري. ألف يوم من الثورة مضت، ولم يعد الشباب يصرخون «الثورة مستمرة»، ولم يعد الشيوخ يهمسون «الثورة مستقرة» ملحقين إياها أحياناً بعبارة «في القاع»، ولم يعد الفلول يسخطون «الثورة مستفزة»، ولم يعد الساخرون ينكتون «الثورة مستجمة»، بل بات الجميع يشعر أن «الأزمة مستمرة ومستقرة ومستفزة ومستجمة».
مشاركة :