منذ عقود بعيدة وطبق الفول يحظى بما يليق به من محبة واحترام في نفوس المصريين، فهو مسمار البطن بالنسبة للأغلبية العظمى من البسطاء والفقراء، إذ إن طبقاً واحداً في الصباح، كفيل بأن يسد المعدة طوال اليوم فلا تصرخ طالبة صاحبها بالطعام أو الشراب. وينظر كثير من أساتذة التغذية إلى طبق الفول باعتباره أحد أهم الأطباق الرئيسية في حياة المصريين، فهو إلى جانب كونه من البقوليات الغنية بالبروتينات اللازمة لبناء خلايا الجسم، يحتوي على عنصر الحديد والأملاح المعدنية اللازمة لتجديد نشاط الإنسان، خاصة عند إضافة الملح والتوابل إليه، ويقول هؤلاء: إن الفول بالنسبة للمصريين أفضل من اللحوم لاعتبارات عدة ليس من بينها فقط قدرته على خفض نسبة الكوليسترول في الدم، ومقاومة الإصابة بهشاشة العظام وأمراض القلب وتصلب الشرايين والسمنة، وإنما لأنه كان حتى وقت قريب طعام الفقراء الرئيسي، قبل أن تضر به موجة جنون الأسعار. لا يخلو شارع في القاهرة، خاصة في أحيائها الشعبية العتيقة، من عربة فول يلتف عليها المصريون في الساعات المبكرة من الصباح، لتناول الطبق المفضل على الإفطار، مع بعض التحابيش اللازمة، في مشهد من النادر أن تجده في أي بلد آخر، يعكس إلى حد كبير مدى تعلق المصريين منذ قديم الأزل بالفول، وإبداعاتهم التي لا تنتهي في طهوه وتدميسه، فهو بالزيت الحار وبالزيت الحلو في الأحياء الشعبية العتيقة، وبزيت الزيتون أو بالثوم والبصل والصلصلة بالنسبة للأغلبية العظمى من المستورين، وبالكاري أو بالمشروم في الأحياء الراقية. وتمر عملية تدميس الفول بمراحل عدة قبل أن يصل إلى عشاقه في صورته النهائية، لكن هذه الطرق تختلف فيما بينها، فطريقة الطهو في البيت، التي تبدأ من نقع الفول في الماء، ثم سلقه في قدر مملوء بالماء المغلي، وإضافة بعض العدس لتلوينه وقليل من البندورة لإكسابه اللون الأحمر الكهرمان، تختلف كثيراً عن الطريقة التي يستخدمها باعته المتجولون على عرباتهم، تلك العربات التي تحظى بالشهرة الأوسع بين مختلف الأطعمة التي يمكن أن تشاهدها في الشارع المصري. وتحترف مهنة بيع الفول عائلات شهيرة في مصر، ربما كان من أشهرها عائلة التابعي التي تملك سلسلة ضخمة من المطاعم الفاخرة في منطقة وسط البلد، والجحش في السيدة زينب التي تملك مطعماً كبيراً لبيع الفول المدمس يحمل اسم العائلة التي تفخر به كثيراً، مثلما تفخر بمطعمها الصغير الذي كان حتى ثلاثة عقود من الزمان إسطبلاً للحمير! وتقبل آلاف من العائلات المصرية على الذهاب إلى مطعم الجحش لتناول أطباق الفول الشهي التي يعدها وبخاصة في رمضان، حيث يتسبب الزحام الشديد على المطعم الشهير في إغلاق الشارع المؤدي إليه تماماً. ولا ينافس مطعم فول الجحش الكائن بالقرب من ميدان السيدة زينب ومسجدها الشهير في القاهرة، سوى مطعم البغل القريب من الميدان، والمطل على شارع خيرت، والغريب أن الفول الذي يقدمه المطعمان لزبائنهما تسبب قبل سنوات في أن تغلق سلسلة محال شهيرة أحد فروعها في المنطقة بسبب المنافسة الشديدة، بعد انصراف الزبائن عن هذا الفرع. ورغم الانتشار الكبير لمحال بيع الفول في القاهرة، إلا أن العربات تفوز باكتساح كبير في المنافسة وبخاصة في الساعات الأولى من الصباح، حيث يفضل ملايين المصريين فول العربات نظراً لما يتمتع به من رخص السعر وجمال الطعم والشكل في آن، فضلاً عما توفره تلك العربات لروادها من مقبلات مجانية إلى جانب الطبق الرئيسي، وهي لا تزيد دائماً على تلال من الجرجير الأخضر والطرشي البلدي إلى جانب الفلفل الحار والزيت بنوعيه الحار والحلو. وتبدأ عملية تكمير الفول الذي تقدمه العربات في المستوقد، بتجهيزه في قدر كبير وإضافة التوابل الخاصة به، قبل أن يتم إغلاق القدر بدقة لعدم مرور الهواء إلى داخله، وإرساله إلى المستوقد حيث تتم عملية الطهو على نار هادئة لمدة لا تقل عن ثماني ساعات ولا تزيد على اثنتي عشرة ساعة، حسب حالة النار في عملية التكمير يصبح بعدها الفول جاهزاً للتقديم. وينتشر في منطقة الزرايب التابعة لحي القلعة في مصر القديمة، عدد من المستوقدات، وهي تلك المحارق البلدية التي يتم التخلص فيها من القمامة التي تقذف بها القاهرة يومياً بعد فرزها بواسطة عمال جمع القمامة، وفصل المواد الصالحة للاستخدام مرة أخرى منها، مثل الزجاج والبلاستيك والكرتون، حيث يتم حرق بقية المخلفات في هذه المستوقدات، حتى إذا ما هدأت النيران وتحولت هذه المخلفات إلى رماد، يتم دفن قدر الفول فيها وإغلاق المستوقد عليها، وهو ما يعرف في أوساط باعة الفول باسم التكمير. ويقول بشندي وهو العامل المختص بتشغيل أحد هذه المستوقدات في منطقة الزرايب: بعد أن تهدأ النار في المستوقد أقوم ب رص القدور بجوار بعضها بعضا، بعد أن يأتي بها أصحاب العربات من أجل عملية التدميس، ثم أقوم بإغلاق المستوقد حتى فجر اليوم التالي، ليتسلم كل معلم قدرته ويحملها على عربته ليبدأ عمله في أحد الشوارع أو الميادين. لا تحتاج تجارة الفول المدمس في مصر إلى رأس مال كبير، إذ يصل سعر العربة المجهزة لحمل القدر والأطباق إلى ألف جنيه مصري أو يزيد قليلاً، لكنها تحتاج بالضرورة إلى خبرة في هذا المجال تمكن البائع من اختيار أفضل أنواع الفول للتدميس، حتى يتمكن من دخول حلبة المنافسة واجتذاب زبائن. وتستورد مصر كميات كبيرة من الفول سنوياً، ويقول علي عبد الفتاح أحد تجار الفول في منطقة الساحل: نحن نستورد تقريباً 80٪ من الفول من الخارج، فهناك الهورس بينز من إنجلترا، ونوع يدعى فسيتا فابا من أستراليا إلى جانب أنواع كثيرة من الفول الصيني ويدعى هيبي، لكن الفول المصري المزروع في البحيرة والنوع المكمور الذي يزرع في الصعيد يظل هو المفضل عند الأغلبية العظمى من المصريين رغم ارتفاع سعره. ويعتمد كثير من باعة فول العربات على الغاز في طهو الفول خلال السنوات الأخيرة، بعد أن قررت وزارة البيئة إغلاق عدد من المستوقدات نظراً لما تسببه من تلوث في البيئة، ويقول محمد عبد الرحمن أحد بائعي الفول في منطقة عابدين: الأمر يتوقف على المهارة في الطهو، وتجهيز القدر قبل وضعه على النار حتى يخرج الفول في النهاية كامل الطهو شهي الرائحة والطعم. وتحقق عربة الفول الواحدة دخلاً يومياً يتراوح بين خمسين ومئة جنيه، لكن نصف هذا الدخل تقريباً يضيع في تجهيز القدر لليوم التالي بعد الارتفاع الكبير والجنوني في أسعار الفول البلدي، ويقول صبحي الذي يملك عربة فول في منطقة الناصرية القريبة من ميدان السيدة زينب: المستورد أسهل وأرخص لكن البلدي أفضل في الطعم وأغلى سعراً، وأنا أحرص على شرائه حتى لا تهرب مني زبائني، ويقول صبحي: حتى وقت قريب كنت أذهب بقدر الفول إلى المستوقد القريب من بيتي، لكن بعد إغلاق المستوقد أصبحت أعتمد على الغاز في طهو الفول، وبإضافة القليل من العدس والأرز يخرج أشهى طعماً من دون الحاجة للذهاب الى مستوقد بعيد.
مشاركة :