يعتبر الكثير من الأطباء التقدم في السن حالة طبيعية مرتبطة بسلسلة من العوامل المجتمعة تشمل الزيادة في معدل الإصابة بالأمراض وتراجع مهارات الدماغ وضعف البنية العضلية وظهور التجاعيد والشعر الأبيض. بينما يرى العلماء أن هناك فرقا بين العمر كرقم إضافي وبين العمر البيولوجي الذي يمكن التأثير فيه، إذا تم تحديد طرق عمل الإنزيمات ودورها في دورة حياة الخلية بدقة. يختلف مسار التقدم في السن من شخص لآخر، ويمر كل فرد بمراحل وتطورات قد لا تتزامن مع غيره رغم تشارك السن نفسها. فما الذي يجعل توأما متطابقا لا يتشارك نفس العلامات والتجاعيد والأمراض؟ يقول عالم البيولوجيا الأسترالي ديفيد أندرو سانكلير، وهو أستاذ علم الوراثة في مدرسة الطب هارفارد في الولايات المتحدة، إن العلماء يبحثون عن طريقة تمكن الفرد من العيش لما بعد الـ90 أو الـ100 عام دون متاعب جسدية أو صحية. وأوضح أن الأمر هنا لا يتعلق بمسألة الخلود وإنما بكيفية العيش بشكل أفضل عبر تغيير نمط العلاجات الموجهة للأشخاص المحتاجين لعناية صحية. ويتساءل سانكلير عن عدم اعتبار التقدم في السن في حد ذاته كحالة طبية تصلح للدراسة والتحليل والبحث عن علاجات خاصة بها، بشكل منفصل عن الأمراض التي تترافق معها. وعلل ذلك بأن ما شاع على اعتباره حالة طبية هو حدوث مرض ما يؤثر على وظائف الجسد ومهاراته وقال “هذا يبدو ملائما أيضا لتعريف التقدم في السن”. وأكد في تقديمه لكتابه “العمر: لماذا نتقدم في السن ولماذا ليس علينا ذلك”، أنه من غير المنطقي اعتبار التقدم في السن شيئا منفصلا عن المرض أو الاضطراب. وأوضح سانكلير أن الخلايا العصبية لدى الأشخاص المتقدمين في السن تتغير ولا تظل على حالها وتبدو وكأنها تبحر في فضاء مفتوح دون عنوان. عندها “لا عجب من تراجع الذاكرة إذا لم تتمكن الخلايا من الحفاظ على معلوماتها الوراثية”. فما يحدث فعليا هو أن الخلايا تفقد هويتها. السؤال هنا “هل يمكننا إبطاء ذلك؟ وهل نستطيع إعادة تشغيل كامل النظام؟”. وشبّه عالم البيولوجيا الأمر باسطوانتي موسيقى، الأولى مليئة بالخدوش والثانية سليمة. وقال، تحمل كلتا الاسطوانتين الكثير من الأغاني والموسيقى (معلومات) لكن قارئ الاسطوانات لن يتمكن من قراءة ما بداخل الاسطوانة المخدوشة. في هذه الحالة، الحل بسيط جدا وهو تنظيف الاسطوانة وإزالة الشوائب من عليها لإعادة تشغيلها. وبالحديث عن التقدم في السن يمكن القيام بالطريقة ذاتها مع أجسادنا مما يمكننا من عزف سمفونية الشباب مرة أخرى. ديفيد اندرو سانكلير: ما كنا نقوم به طوال الوقت هو العمل على جعل الحياة أطول ولم نكن نسعى لجعلها أفضل وأكثر صحة ديفيد اندرو سانكلير: ما كنا نقوم به طوال الوقت هو العمل على جعل الحياة أطول ولم نكن نسعى لجعلها أفضل وأكثر صحة ثم عرض الباحث الأسترالي صورة لفأرين توأم بدا شكلهما مختلفا تماما، أي أن علامات الكبر بدت على أحدهما أكثر وضوحا، رغم تشاركهما لنفس السن. الفأر المتقدم في السن (بيولوجيا) أدخل عليه الباحثون تحويرات مخبرية محفزة للشيخوخة تسببت في تحول لون فروه إلى اللون الرمادي وبإجراء تحليل عن شكل أعضائه تبين أنها صارت أكبر سنا. وأفاد سانكلير، خلال محاضرة في سويسرا، “ما كنا نقوم به طوال الوقت هو العمل على جعل الحياة أطول ولم نكن نسعى لجعلها أفضل وأكثر صحة”. وفي رده خلال مقابلة مع تلفزيون “سي.أن.أن موني سويتزرلاند” السويسري، عن سؤال حول سر خلوّ شعره من أي خصلة رمادية رغم بلوغه الخمسين من العمر، قال الباحث الأسترالي إنه يمارس الرياضة ويتمنى لو أنه يستطيع تخصيص حيز أكبر للتمارين. وأردف أنه يحاول أن يظل جائعا قدر الإمكان كل يوم وأنه يفضل تناول الخضروات على اللحوم التي يتمنى أن يقلل الناس من كمياتها المتزايدة. وأكد في النهاية أن “مفتاح إبطاء عملية التقدم في السن هو الرياضة”. ولا يزال العلماء منكبّين على فك شفرة تأثير الإنزيمات في الخلايا ودورها في إبطاء شيخوختها. وقد نشرت شبكة “سي.أن.أن” الأميركية مؤخرا نتائج دراسة واعدة أجراها باحثون من جامعتي “أريزونا ستايت” وتكساس “أي.اند.أم” الأميركيتين. قال الدكتور جوليان تشن، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة أريزونا والذي شارك في الدراسة التي نشرتها مجلة “ذي أكاديمي أوف ساينسز”، “هذه هي المرة الأولى التي نحدّد فيها الهيكل المفصل لمكون التيلوميراز من النباتات”. والتيلوميراز هو الإنزيم الذي يخلق الحمض النووي للتيلوميرات، وهي الهياكل المركبة الموجودة على أطراف الكروموسومات لدينا. وبتكاثرها، تحمي التيلوميرات خلايانا من الشيخوخة. وأضاف تشن “لذلك في ما يتعلق بالبحوث الأساسية، يعد هذا إنجازًا كبيرًا حقًا، لأنه أصبحت لدينا الآن طريقة لدراسة التيلوميراز في النباتات وفهم مدى تشابهها أو اختلافها عن الحيوانات”. فهل يمكن أن يؤدي هذا الاكتشاف إلى أن يعيش الإنسان يومًا ما حياة طويلة مثل حياة شجرة الميثوسيلا؟ تمتد حياة هذه الشجرة المعمرة إلى أكثر من 5000 سنة وهي نوع من أشجار الصنوبر التي تعيش في كاليفورنيا. يرى تشن أن البحث برمته بالغ الأهمية لكن لا يزال الطريق طويلا لتطبيق النتائج ذاتها على البشر. ومع ذلك عبر الخبراء عن تفاؤلهم بما توصلوا إليه. ومن بين هؤلاء الأخصائية في علم وظائف الأعضاء، إليزابيث بلاكبيرن، التي فازت بجائزة نوبل لعام 2009، إلى جانب كارول غرايدر من جامعة جونز هوبكنز وجاك زوستاك من جامعة هارفارد. وقالت بلاكبيرن “من المثير للإعجاب أن التقرير يشير إلى كيفية ملء النباتات للروابط المفقودة للمسار المتحرك والمتحول للحمض النووي الريبي التيلوميراز. هذا الفهم الأساسي الجديد قد يمهد الطريق إلى وسائل جديدة لتحسين صيانة التيلومير بما يخدم صحة الإنسان”. ويشبه تقرير الـ”سي.أن.أن” التيلوميرات بالأغطية البلاستيكية التي نراها في طرفي أربطة الحذاء والتي توضع بهدف حمايتها من التآكل والتلف. تحافظ المستويات العالية من التيلوميراز على سلامة التيلوميرات لفترة طويلة، مما يسمح لها بمواصلة حماية خلايانا من التلف أثناء انقسامها. تحتوي معظم الخلايا في جسمنا على مستويات منخفضة جدًا من التيلوميراز. وبالتالي يتقدم العمر عند تقسيمها وهو ما يحصل عند تلف رباط الحذاء الذي يبلى ويتآكل حتى يختفي. تتقدم الخلايا في السن مثلما يكبر الجسم وتصبح بدورها لا تعمل بشكل طبيعي. ومع ذلك، عندما تكون أعقاب الخلية محمية بواسطة التيلوميرات، لا تفقد سوى جزء من التيلومير أو الغطاء فقط، أي عندما تنقسم الخلية يظل الجزء المهم من الحمض النووي محميا من التلف. وبالنظر إلى انقسام الخلية النموذجية حوالي 50 إلى 70 مرة، فإن عدم وجود غطاء واقي يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار كروموسوم أو إلى توقف الخلايا عن الانقسام. بالنسبة إلى البشر، على سبيل المثال، تحتوي كروموسومات البويضات والحيوانات المنوية والخلايا الجذعية على مستويات عالية من التيلوميراز وبالتالي يمكن أن تستمر في الانقسام مرارًا وتكرارًا وتتجنب الشيخوخة السريعة. ومع ذلك، حتى التيلوميرات ليست لها حياة أبدية. ففي كل مرة تتكاثر فيها الخلية، نفقد حوالي 20 زوجًا من التيلومير أو ما سميناه بغطاء أربطة الحذاء. كما يمكننا أن نخسر أكثر من 50 إلى 100 زوج أساسي لكل انقسام خلية – عندما تكون أجسامنا في حالة تأكسد. يعرض الإنسان جسده للإجهاد التأكسدي باتباعه للعادات السيئة كالتدخين والتوتر واتباع نظام غذائي غير صحي. ونتيجة لهذا النمط غير السليم حتى التيلوميرات المحمية قد تتآكل في النهاية. لكن إذا استطاع العلم تسخير سر إنزيم التيلوميراز، فمن الممكن أن نطيل عمر التيلوميرات أكثر، مما يبطئ عملية الشيخوخة. وفسر الباحثون فكرة رئيسية أخرى لكشف هذا اللغز عندما قالوا إن الخلايا السرطانية تحتوي على مستويات عالية من التيلوميراز، مما يسمح لها بمواصلة تكرار نفسها حتى تشكل الأورام. يؤدي إيقاف نشاط التيلوميراز في الخلايا السرطانية إلى تقصير التيلوميرات الخاصة بها، مما يتسبب في تقليصها إلى نقطة تسمى “الطول الحرج” والتي تؤدي بعد ذلك إلى موت الخلية المبرمج. يواصل العلماء استكشاف دور التيلوميرات وإنزيم تيلوميراز في عملية لتقدم في السن، ويعتقدون الآن أنهما قد يكونان جزءًا واحدًا فقط من سائر العملية، على الأقل في الحيوانات. وقال تشن “إذا كانت الخلايا تحتوي على التيلوميراز فإنها ستعيش لفترة أطول ولكن هذه الخلايا ليست سوى جزء من جسمك. سواء كان ذلك يمكن أن يؤخر شيخوخة الفرد بأكمله أو يزيد من العمر الافتراضي، فهذه قصة مختلفة”.
مشاركة :