“الخلود يلتصق بالموت”. تلك مقولة الأديب التشيكي ميلان كونديرا المرسومة بتفاصيل خلابة في روايته التي تحمل الاسم نفسه، وحازت جوائز عالمية واعتبرها البعض رواية القرن، إذ يمكن للمرء أن يضع حدا لحياته لكنه لا يستطيع أن يضع حدا لخلوده. فخلود الإنسان ليس من صنعه، ولو حاول. تشاطرك الفكرة وأنت تتأمل خالدين كُثرا في تاريخ البشرية لم يبذلوا جهدا ليكونوا خالدين. ربما لم يفكروا أو يخططوا أو يقدموا خلال حيواتهم بما يُمثل عملا استثنائيا يستحق الخلود. لا هم أبطال مغاوير أو فاتحون عظام أو مخترعون أفذاذ أو أدباء مبهرون، لكنهم خلدوا نتيجة نظرة الناس أو تصورات الآخرين عنهم. يمكن القول أن الفرعون الشاب توت عنخ آمون يمثل نموذجا مثاليا لهؤلاء، فالرجل لم يحُرز مجدا عظيما بين ملوك الحضارة المصرية القديمة. لا هو رمسيس الثاني الذي حكم مصر 67 عاما وحقق انتصارات عسكرية كبرى، ولا هو الملك أحمس الذي نجح في إنهاء احتلال الهكسوس لمصر بعد احتلال امتد لأكثر من مئة عام. ليس مثل تحتمس الثالث الذي انتصر على الأعداء خارج أرضه بعربات حربية جديدة، وبالطبع ليس هو مثل والده إخناتون الذي دعا إلى توحيد الآلهة في إله واحد يُرمز له بقرص الشمس وأسماه آتون. كان ذكره في التاريخ باهتا وغير فعال، بل إن زمنه كان زمن اضطرابات وفوضى، ولم يحكم طويلا أو يعش عمرا مديدا، إذ تولى وهو في سن العاشرة، ومات وهو في عمر التاسعة عشر. ورغم كل ذلك، فإن اسم توت عنخ آمون ويعني باللغة المصرية القديمة الصورة الحقيقية للإله، هو الأشهر والأكثر شعبية لدى الناس من مختلف الجنسيات حتى أنك إن كتبت اسمه باللغة الإنكليزية على محرك البحث “غوغل” لحصلت على 7 ملايين و220 ألف نتيجة على الفور. أما إن بحثت عنه باللغة العربية فستجد لديك 2 مليون و800 ألف نتيجة. لم يكن مفاجئا ذلك الحضور الأسطوري للزوار أمام صالة عرض ساتشي بالعاصمة البريطانية لندن فور افتتاح معرضه مؤخراً، حيث تمددت طوابير الزوار انتظارا للدخول لمشاهدة المعرض الذي يضم 166 قطعة من مقبرته، في ظل الاحتفال بمرور 97 عاما على اكتشافها. بدأ المعرض أولى محطاته في مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا الأميركية في مارس 2018 وحقق نجاحا مبهرا قبل أن ينتقل إلى باريس في سبتمبر من العام الحالي، ويسجل رقما قياسيا للزوار حيث تجاوز عددهم مليونا و300 ألف زائر، ثُم يصل محطته الأخيرة لندن، تمهيدا لعودته في شهر مايو 2020 إلى المتحف المصري الكبير بالجيزة المجاورة للعاصمة القاهرة ليستقر فيه. ويبدو ولع العالم بالحضارة المصرية القديمة وشغفه بآثارها وكنوزها وملوكها عظيما، غير أن ذلك الولع أكبر من الفرعون الشاب تحديدا، وهو ما فطن إليه المسؤولون فاختاروه سفيرا للآثار المصرية في العالم من خلال معارض خارجية عديدة، بدأت سنة 1961 ونجحت في جذب السياح من مختلف الدول لزيارة الآثار الفرعونية في مصر. مع أن فكرة معارض الآثار بالخارج لها معارضون كثر من بين المثقفين المصريين، غير أن الآثار الإيجابية لتلك الفكرة جاءت أكبر كثيرا من المخاوف، إذ لا يقتصر الأمر على الحصول على عائدات بقيمة تذاكر الزوار في كل مكان يقام فيه المعرض، وإنما يمتد الأثر لجلب السياح إلى مصر لزيارة باقي الآثار من معابد متعددة وأهرامات متدرجة ومتاحف تحتوي على آلاف القطع الأثرية القيمة. اسم توت عنخ آمون يعني باللغة المصرية القديمة الصورة الحقيقية للإله، هو الأشهر والأكثر شعبية لدى الناس من مختلف الجنسيات، حتى أنك إن كتبت اسمه باللغة الإنكليزية على محرك البحث {غوغل} لحصلت على 7 ملايين و220 ألف نتيجة على الفور. أما إن بحثت عنه باللغة العربية فستجد لديك 2 مليون و800 ألف نتيجة يمكن تفسير حالة الشغف بالملك توت عنخ آمون تحديدا بكونه الفرعون الوحيد الذي اكتشفت مقبرته كاملة دون عبث بها، أي نجت من سرقات اللصوص، لتحتل المركز الأول بين المقابر الفرعونية في عدد القطع والمقتنيات، وضمت 358 قطعة من بينها ثلاثة توابيت على هيئة تماثيل للفرعون، أحدها من الذهب الخالص، والآخران من الخشب المطعّم بالذهب، وعشرات القلائد والخواتم والعصي والتماثيل الصغيرة المبهرة بتصميماتها وألوانها الخلابة. يمثل الفرعون الشاب قصة نجاح وفخر لبريطانيا ذاتها، نظرا لأن مكتشف المقبرة عالم بريطاني هو هوارد كارتر، بتمويل من اللورد جورج إدوارد ستانفورد المعروف باللورد كارنارفون، ما يعني إنجازا حضاريا كبيرا يحسب للبريطانيين في تنافسهم مع الفرنسيين بشأن استقراء واكتشاف الحضارة المصرية القديمة. سبق للفرنسيين وأن اكتشفوا حجر رشيد خلال الحملة الفرنسية على مصر، ثم تمكن العالم الفرنسي فرانسوا شامبليون من فك رموز اللغة المصرية القديمة من خلال النص المكتوب على حجر رشيد بثلاث لغات إحداها الهيروغليفية. يقول وسيم السيسي الباحث في المصريات لـ”العرب”، إن البريطانيين هنا يحتفلون بإنجاز أحد علمائهم، من خلال احتفائهم بمعرض الفرعون الشاب. عن قصة الاكتشاف الذي قُدم وروّج في العالم بكثير من التشويق والإثارة، حكى كارتر أنه في يوم 4 نوفمبر 1922 كان يعمل في البر الغربي بمدينة الأقصر، جنوب مصر، عندما لاحظ وجود قبو غريب عند مدخل مقبرة رمسيس السادس، وهنا توقف وافترض أن هناك مقبرة مخفية أسفلها فأمر عماله، وكانوا جميعا من المصريين، بمواصلة الحفر حتى تمكن في 16 فبراير 1923 من الوصول إلى المقبرة بكامل كنوزها. طبقا لرواية كارتر نفسه، كانت قدمه أول قدم تطأ غرفة دفن الفرعون الشاب منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة (تاريخ الوفاة 1323 ق.م)، ووجد فيها تابوتا خشبيا كبيرا عليه نقوش مطعمة بالذهب، فرفعه ليجد صندوقا داخله مغطى بنقوش من الذهب حتى وصل إلى الصندوق الحجري الذي كان منحوتا على شكل تمثال لتوت عنخ آمون، وداخله تابوت آخر ذهبي يحتوي على مومياء ملفوفة بكفن شبه مهترئ، وحاول كارتر فصل الكفن، وهو من الكتان الخالص، عن المومياء لكنه فشل، واضطر إلى تقطيع الكفن ليجد أمامه جسدا ممدّدا بطول 170 سم بكامل هيئته الرسمية. وقتها سُردت الحكاية بتشويق شديد، وإثارة لافتة حتى تحول الاكتشاف إلى عنوان رئيسي في صحف بريطانيا ومعظم دول العالم، والتقطت صور عديدة للمقبرة، ما أسفر عن اهتمام شعبي في مصر التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني واختلط الحس الوطني بموضوع المقبرة فوجّه المصريون اتهامات عديدة لكارتر واللورد كارنارفون بسرقة بعض محتويات المقبرة، وقامت الحكومة وقتها بتعيين حراسة شرطية على المقبرة لحين جرد كافة المقتنيات. بالطبع هناك أسباب أخرى لذيوع شهرة توت عنخ آمون، منها ما عرف صحافيا بلعنة الفراعنة التي نشأ الحديث عنها بعد الكشف عن المقبرة مباشرة، حيث أظهرت صور المقبرة عند اكتشافها لوحة تضم نقوشا تضمنت عبارات من بينها عبارة تحذيرية تقول “سيضرب الموت بجناحيه السامّين كل مَن يعكر صفو الملك”، وهي في الغالب عبارة إرهاب للصوص الذين اعتادوا السطو على مقابر الفراعنة منذ العصور الأولى. ساهمت وسائل الإعلام الغربية في الاستدلال على صحة التحذير بالربط بين وفاة بعض العمال الذين شاركوا في التنقيب عن المقبرة وبين اللعنة، ولم يلبث أن توفي ممول التنقيب عن المقبرة اللورد كارنارفون نفسه بعد أقل من عام من الافتتاح بمرض غريب ونادر ليجد المروّجون للفكرة أسانيد واستدلالات أخرى يضيفونها للتأكيد على فرضيتهم. الواقع أن الفرعون تحول بعد ذلك إلى أسطورة عالمية تكاد تكون رمزا للحضارة المصرية القديمة، تقارب رمزية الأهرامات وأبوالهول، خاصة كلما جد جديد في العلوم المرتبطة بالمومياوات، إذ سعى علماء كثر إلى محاولة استقراء كيفية وفاته من خلال عملية التشريح الأولى التي أظهرت وجود فتحة في الجمجمة استدل بها بعض العلماء على تعرض الفرعون للاغتيال بالضرب على رأسه ما يفسر وفاته في سن التاسعة عشر. ورجح هؤلاء أن يكون وراء الاغتيال وزيره “خير رع أي” لأنه تزوج من أرملة الفرعون بعد وفاته ونصب نفسه فرعونا، وتوالى نسج القصص حول شخصية توت، وتحول إلى أسطورة لدى المهتمين والمعنيين بالآثار الفرعونية، ولذلك تجذب معارضه الناس ليطلعوا عليه بأنفسهم، وهل يستحق الهالة التي تتردّد حوله أم لا، ووجد غالبيتهم أنه يستحقها وربما أكثر منها، فمقتنياته كفيلة بتأكيد أنه لم يكن فرعونا أو شابا عاديا. حاول المصريون استثمار الولع بالفرعون وحكاياته، ما دفع عالم المصريات الشهير زاهي حواس إلى أن يعرض الفرعون على أجهزة الأشعة الحديثة سنة 2005 ويخرج بنظرية مضادة تستبعد اغتيال الفرعون، وتؤكد أن الفتحة الموجودة في الجمجمة هي فتحة اعتيادية لصب مواد التحنيط. وأشارت نتيجة الفحص إلى أن توت كان مصابا بمرض نادر منذ الطفولة يجعله قعيدا، واستدل حواس برسومات للفرعون وهو يجلس في عربته العسكرية موجها السهام إلى الأعداء بدلا من تصويره واقفا مثل باقي الفراعنة في نقوشهم ليؤكد صحة ما ذهب إليه، فضلا عن قوله أن مقتنيات مقبرة الفرعون الصغير ضمت عددا ضخما من العصي التي كان يستند عليها خلال سيره، رغم صغر سنه. ثمة قصة أخرى ساهمت في أسطرة الفرعون الصغير الذي أثبتت تحليلات الحمض النووي الحديثة أنه ابن إخناتون، وذكرها كاتبان بريطانيان هما أندرو كولينز وكريس أوجيلفي في كتاب حمل عنوان “توت عنخ آمون: مؤامرة الخروج”، وذكرا أن اللورد كارنارفون وهوارد كارتر كتما سرا خاصا ببرديات معينة وجدت في المقبرة تنسف قصة الخروج اليهودي من مصر، حيث تثبت أن الذين خرجوا كانوا بعض المؤمنين بالإله الواحد من أتباع إخناتون، وليسو قوم النبي موسى. وضع الكتاب فرضيته على موقف بسيط، عبارة عن مشادة كلامية بين كارتر ومسؤولين بالقنصلية البريطانية في القاهرة، قال خلالها إنه يهددهم ببرديات تحكي تفاصيل خروج المصريين المؤمنين بإخناتون من مصر بالطريقة ذاتها التي ذكرتها الرواية اليهودية عن خروجهم. غير أن تلك الحكاية تدخل في باب استثمار الأسطورة، وهي من الفرضيات غير القائمة على أدلة علمية صحيحة. لكن تبقى حكاية خلود الفرعون الصغير دليلا على صحة فكرة ميلان كونديرا.
مشاركة :