تعدُّ عملية صنع القرار في إيران من العمليات المعقّدة نتيجة للخصوصية الدينية لهيكلها السياسي؛ إذ يتخلّلها الكثير من الشدّ والجذب داخل شبكة من الهيئات المتنفذة في الدولة؛ وكونها دولة ثورية، تعتمد على عدد من الآليات لمنع الانقلابات وحماية النظام، ورغم ذلك يظل التنافس بين هذه الهيئات والاقتتال الداخلي بين فصائلها المختلفة غير ذي جدوى على عملية صنع القرار، وهذا جعل السياسة الأمريكية وتركيزها على الفهم المبسط للسياسة الإيرانية يبوء بالفشل في فهمها وتحليل تجلياتها، وبخاصة منذ ثورة 1979؛ إذ صعَّب هذا التعقيد السياسي المهمة على واشنطن في فهم تصرفات إيران. وفي هذا الإطار، صدر تقرير عن مؤسسة راند الأمريكية، بتاريخ 17/10/2019. بقلم «أريان م. طباطبائي» - الباحثة في مؤسسة راند - تحت عنوان: «الأمن القومي الإيراني: النتائج المترتبة على المفاوضات الإيرانية الأمريكية». يتناول التقرير أضلاع السلطة السياسية في إيران، حاصرا إياها في ثلاثة اتجاهات - محافظين، متشددين، معتدلين فقط - مقدما الحل الأمثل - في الوقت الراهن - لهذا الاختلاف الأمريكي الإيراني، والذي يكمن في تغيير السياسة الأمريكية وطمأنتها للرموز المعتدلة والمتشددة بصدق نواياها في التفاوض والتوصل إلى اتفاق نووي جديد. وفي هذا التقرير نجحت الباحثة في تقديم حُججها لدعم آرائها وفكرتها، من خلال عرض دراسة شاملة حول تناقضات الرؤى والمصالح داخل دائرة صنع القرار السياسي الإيراني، وبخاصة مسألة المحادثات مع واشنطن والنتائج المترتبة عليها. ولكن تجاهلت الأسباب المفسرة لوجود هذه الاختلافات بين الفئات المختلفة داخل إيران، وأنهت تقريرها باقتراح السبل التي يجب على واشنطن اتباعها تجاهها، ورغم هذه الأخطاء المنهجية إلا أنها دعمت تقريرها بقيم وفوائد تحليلية كبيرة للأكاديميين المعنيين بالعلاقات الأمريكية الإيرانية. بدايًة، استهل التقرير بدراسة المحددات الهيكلية عن كيفية وضع وعمل السياسات في إيران؛ إذ إن النظام السياسي الإيراني نظامُ حكم يتمتع فيه المرشد الأعلى بأعلى سلطة مطلقة، ورغم وجود هذه السلطة الفوقية إلا أن النظام الإيراني يمتلك تنوعا في المؤسسات والأفراد بدرجات مختلفة من القوة، ويُعد أقوى كيان في النظام وباقي الفاعلين الآخرين يعملون بناء على توجيهاته وقراراته. ورغم تعدد مراكز القوى إلا أنها تحت قيادة الحرس الثوري الإسلامي؛ الذي تأسس في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979. بقرار من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الخميني لحماية النظام الناشئ، وخلق نوع من توازن القوى مع القوات المسلحة النظامية. وفي هذا السياق، أخفقت الباحثة في معرفة سبب ذلك النفوذ، وإن كان تطرق إلى هذا الموضوع آخرون، ومن ضمنهم سعيد جولكار - أستاذ العلوم السياسية بجامعة تينيسي - إذ ذكر في تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط أن: «الحرس الثوري الإيراني هو أهم منظمة لبقاء الجمهورية الإسلامية، وأنه يعزز المؤسسة الدينية عن طريق قمع الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، ومنع التدخل الخارجي أمام محاولات تغيير النظام، ومراقبة القوات المسلحة لتقليل خطر حدوث انقلاب». وقام خامنئي بتعزيز مكانة الحرس الثوري الإسلامي في مدة ولايته لتقوية مكانة الدولة، ورغم ذلك بقي قوة غير متجانسة داخليا، فثمة اختلافات كبيرة بين فصائله، كما يختلفون صراحة مع السياسة العامة للدولة، فعلى سبيل المثال: يُنظر إلى فيلق القدس داخل الحرس الثوري، الذي يقوم بأنشطة حربية واستخباراتية على أنه أقوى عنصر في الحرس الثوري؛ والأكثر حفاظا على السياسة الإقليمية لإيران، بينما في المقابل تعد البحرية الإيرانية الأقل نفوذا، وتدفع باستمرار إلى التركيز على تعزيز الوجود الإيراني في الخليج. وتتنافس الفصائل في الواقع السياسي من أجل تشكيل الرأي العام لصالحها؛ وفي هذا السياق تقول «طباطبائي»: «تحاول مختلف الفصائل ومراكز القوى تشكيل الخطاب العام والسيطرة عليه، وحشد الجمهور وأصحاب المصلحة الآخرين لدعم مواقفهم، والضغط على خصومهم لتحقيق النتائج المرجوة». ورغم سرد «طباطبائي» لأسباب تعقيد نظام صنع القرار الإيراني ومناقشتها، إلا أنها لم تثبت بشكل كاف الأسباب الآيديولوجية لهذه الاختلافات بين الفصائل. ويمكن إرجاع هذه الاختلافات إلى وجود آراء متباينة بين الفصائل ما يؤدي إلى اتباع سياسات متباينة، فمثلا يعتقد الكثيرون داخل الحرس الثوري الإيراني أنه يتعين على إيران إعطاء الأولوية لنشر آيديولوجيتها الطائفية الثورية في الخارج بدرجة أكبر بكثير من المعتدلين الذي يدعمون الرئيس روحاني، وهذه الاختلافات واضحة للغاية وحاضرة بين الرئيس والقائد الأعلى، ويشير «كريم سجادبور» - في مقابلة أجراها مع مجلة ذا أتلانتيك الأمريكية - إلى هذا الأمر فيقول: «لدى خامنئي وروحاني اختلافات فلسفية حول أفضل السبل للحفاظ على إيران، يريد خامنئي والمتشددون الحفاظ على المبادئ الأصلية للجمهورية الإسلامية، سواء كان ذلك يعني العادات الإسلامية (في الداخل) أو السياسة الخارجية المقاومة في الخارج؛ في حين أن روحاني والمعتدلين يعتقدون أن السياسات التي اتبعتها إيران عام 1979 مثل شعار «الموت لأمريكا» لن تخدم بالضرورة مصالح البلاد عام 2016»، ولذلك يميل كلاهما إلى اتباع سياسات مختلفة؛ إذ نجح روحاني في بعض الأحيان في إقناع خامنئي بفوائد منهجه الأكثر اعتدالا، وظهر ذلك في قبوله توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة «JCPOA» أو الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. وفيما يخص العلاقات الأمريكية الإيرانية، فقد اتسمت بالتوتر الشديد عقب ثورة 1979. إذ اعتبرت إيران الولايات المتحدة ألد أعدائها بعد أن كانت حليفتها، وعمل الخميني مع وصوله إلى السلطة على المساواة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، واعتبرهما قوة استعمارية، وأطلق على الأخيرة «الشيطان الأكبر»، وزاد التصعيد قوة بين الطرفين عندما قام طلبة باقتحام السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا 52 أمريكيا والمطالبة بتسليم الشاه للمحاكمة، وردًا على ذلك نفذت الولايات المتحدة عملية عسكرية لإنقاذ الرهائن لكنها فشلت، وتراجع التصعيد مع توقيع الاتفاق النووي في 2015. بيد أن وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى السلطة وانسحابه من الاتفاق في أبريل 2018 أسهم في توتر العلاقات بين البلدين مرة أخرى. وتذكر «طباطبائي» في تقريرها أن اليوم: «تواصل النخب السياسية والعسكرية النظر إلى الولايات المتحدة على نطاق واسع باعتبارها قوة معادية، ومع ذلك، فإن هذه النظرة العدائية لم تخلق موقفا متفقا عليه بشأن كيفية التعامل مع هذا التهديد، ويختلف صناع السياسة الإيرانيون حول النهج تجاه واشنطن». وترى «طباطبائي» أن الأصوات المعتدلة التي كانت مهيمنة على الساحة الإيرانية ذات يوم قد تم تهميشها لصالح الاتجاهات المحافظة المتمثلة في قوات الحرس الثوري؛ وأشار المحلل الإيراني «جليل بايات» في مقال له، في مجلة لوب لوج الأمريكية إلى تجليات هذا الأمر قائلا: «يمكن أن نستنتج بشكل معقول أن القرارات الإيرانية الأخيرة فيما يتعلق بالامتثال للاتفاق النووي أو الرد باحتجاز ناقلة نفط بريطانية عملاقة من قبل إيران في منطقة الخليج العام الحالي، قد اتخذها المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بموافقة المرشد الأعلى الإيراني»، وتشير جميع الأدلة إلى أن السياسيين المتشددين يهيمنون الآن بآرائهم المتشددة على المجلس الأعلى للأمن القومي عكس من يؤيدون ضرورة التواصل والتفاوض مع الدول الغربية مثل ظريف والرئيس حسن روحاني، وهما يمثلان السلطة التنفيذية». ولعل تزايد الأعمال العدائية الإيرانية منذ انسحاب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي في أبريل 2018. هو ما يؤكد صحة مخاوف المتشددين المحافظين ونجاحهم في استعادة ثقة خامنئي مرة أخرى. وتمتد صراعات القوى داخل النظام الإيراني لتؤثر على قضايا أخرى كالعلاقات الخليجية الإيرانية، وهنا تبرز «طباطبائي» هذا الأمر قائلة: «يطالب البعض، بمن فيهم روحاني وأعضاء حكومته، بالتفاوض مع السعوديين لتسوية أي نزاعات إقليمية، ولطالما رفض الحرس الثوري الإيراني وغيره من مراكز القوى هذا التوجه بشكل قاطع، بحجة أن طهران في موقع قوة وعليها بالتالي ألا تسعى إلى إشراك الرياض معها في أي مفاوضات». وثمة احتمال في أن تكون زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرًا إلى السعودية من أجل تشجيع الطرفين السعودي والإيراني على إزالة التوتر بينهما في منطقة الخليج؛ ودعوتهم إلى إجراء مفاوضات بينهما، ولهذا توقع المحلل السياسي الروسي «فيودور لوكيانوف» أن يراهن بوتين على علاقات موسكو الجيدة مع الدول العربية وإيران، ليحاول «لعب دور صانع السلام» في الخليج. وتكمن قوة التقرير في استنتاجه أن إدراك حقيقة من بيده صنع السياسة الإيرانية، ومن القادر على التأثير عليها من المعتدلين، يمكن أن يؤدي إلى قيام الولايات المتحدة باتخاذ قرارات مستنيرة بشكل أفضل فيما يتعلق بطهران والتوصل إلى اتفاق، مُشيرة إلى: «أنه يمكن للولايات المتحدة أن تتبع نهجًا مماثلا كما هو الحال مع المحادثات النووية 2012-2015. لقطع الطريق أمام أي مجال من مجالات الخلاف وبالتالي المشاركة في مفاوضات شاملة في وقت واحد أو في عملية تدريجية، ومن خلال القيام بذلك، يمكن للولايات المتحدة وإيران تجنب أي مجال للخلاف، والعمل معًا في إطار ما يمكن تحقيقه مع القيادة الحالية». ورغم مثالية هذا الطرح إلا أنه يبدو غير مفيد للإدارة الأمريكية الحالية؛ نظرًا إلى أن دونالد ترامب يتسم نهجه في السياسة الخارجية بالتذبذب وعدم الاتساق والتلقائية، ورغم أن ترامب أظهر بنفسه استعدادا للتفاوض مع إيران، إلا أنه يفتقر إلى القدرة الدبلوماسية لمتابعة المساومة بشأن بعض القضايا الحساسة وفقًا لما تعكسه التوجهات السياسية الإيرانية الداخلية، كما أنه من غير المحتمل أن يسمح المتشددون الحاليون داخل إيران لروحاني بالتفاوض مع واشنطن. وإجمالا، من غير المرجح مع وجود ترامب في البيت الأبيض وروحاني المعتدل المهمش في طهران، أن يحقق هذا التقرير الصدى الذي يستحقه، لأنه يُثير العديد من النقاط المهمة فيما يتعلق بكيفية وجود تلاقٍ وتوافق في الرؤى بين رموز السياسة الإيرانية المتشددة والمعتدلة، وكيف يؤثر ذلك على العلاقات الأمريكية الإيرانية، وتعد توصية طباطبائي بشأن كيفية تعامل صانعي السياسة الأمريكية مع إيران جيدة، وقد يكون هذا التقرير بمثابة مخطط للمستقبل يستعين به رؤساء الولايات المتحدة وصناع القرار في تعاملهم مع إيران لحل وتفادي مشكلاتها الدولية.
مشاركة :