كنتُ أستمعُ إلى أوراق العمل التي كان يقدمها طلابي وطالباتي الأعزاء في مرحلة (الماجستير) في إحدى محاضرات (نظرية الأدب) في الجامعة، وكانت إحدى القضايا التي نناقشها (كيف كان الجاحظ منظّراً؟!) وقد اعتمدنا معاً كتاب (البيان والتبيين) وصرنا نقرأ منه كثيراً، متأملين فكر الجاحظ في تنظيره الأدبي، وَوَصَلَتْ إلى الطلاب الملامح الأولى للنظرية الأدبية من خلال فكر الجاحظ الذي تعمقّنا من خلاله، فلم نجده مقتصرا في تنظيره على بلاغة الإفصاح، أو بلاغة النادرة، أو بلاغة الإضحاك، أو أدب السخرية، بل تجاوزنا ذلك إلى أن وصلنا إلى (كيف كان الجاحظ يتناول موضوعات حديثة تطرق اليوم، كـ(لغة الجسد) و(فلسفة الجمال) ونحو ذلك من الموضوعات التي تستحق التأمل؟!). ونظراً لأن طلابي وطالباتي الأعزاء قد صبوا اهتماماً مختلفاً، ومنقطع النظير في البحث عن الجاحظ (المنظّر) وليس الجاحظ المؤلف؛ فإننا قد توصلنا معهم إلى نقاط اتفاق وائتلاف، تبلورت في تركيز الجاحظ على (لغة الجسد) بكل تفاصيلها، من إيماءاتٍ، وحركات، وأصوات، وإشارات، إلى أن دخلنا إلى مسألة (الجمال) التي لم يقصرها على عرف سائد، أو نمط معلوم، بل نقلها إلى مبدأ مختلف ومغاير عما هو معهود ومألوف، فالجمال عنده - وهذا غريب نوعا ما - ليس الجمال الذي نعرفه اليوم، ويعرفه كثير من الناس، بل هو الجمال الذي وجده الجاحظ عند بعض الأعراب، وكأنه يريد أن يقول: إن معيار الجمال الأصيل هو ما كان منبعثاً من بيئة أولئك الأعراب. ليست القضية هنا في تناول الجاحظ لمفهوم الجمال، وتحديده إياه بنمط مفاجئ، فمعايير الجمال متفاوتة، ونسبية، لكن الأهم من ذلك - وهو ما تركّز عليه النظرية في أهم محدداتها ومقوماتها – أن الجاحظ صار يطرح أسئلة، ويرمي من خلالها إجابات عميقة؛ ليقنع المخاطب بأن هذا المبدأ المختلف هو القانون الأصيل في الجمال، يقول مثلاً: «قيل لأعرابي: ما الجمال؟ فقال: غؤور العينين، وإشراف الحاجبين، ورحب الشدقين». ولأن النظرية تعتمد على (ألا نتوقف عن السؤال) كما يقول (أنشتاين) فإن أسئلة طرحها الطلاب كانت مثيرة للاهتمام، لعل أهمها (كيف يمكن أن يكون غؤور العينين باعثاً على الجمال؟! وكيف للجاحظ أن يزيد من إدخال العين حين جعل الحاجبين مشرفين؟!) والأكثر غرابة وإثارة أن الإجابات عن هذين السؤالين كانت توحي بأن الجاحظ كان يعيش عقدةً نفسية بسبب جحوظ عينيه، حتى صار راسخاً في ذهنه أن الجمال هو عكس ما يلقّب به، وكأنه عاش متذمراً من هذا اللقب.
مشاركة :