قد يعتقد الكثيرون أن الأطفال الذين يحيون في المدن الكبرى محظوظون أكثر من أقرانهم الذين يحيون في المجتمعات الريفية. لكن رغم الحياة العصرية التي يتمتع بها الأطفال والسكان بوجه عام في العواصم المختلفة، خاصة الدول الصناعية، فإن هذه الحياة العصرية لها الكثير من الجوانب السلبية بطبيعة الحال، لعل أهمها وأشهرها تلوث الهواء نتيجة انبعاث كميات كبيرة من عوادم السيارات بجانب أبخرة المصانع المتعددة المحيطة بالمدن، والتي تحتوي على كميات كبيرة من الرصاص والغازات الضارة بصحة الإنسان، خاصة النشء الصغير، رغم القوانين التي تحاول أن تحد من هذه الظاهرة العالمية. * التلوث والذكاء وهناك آلاف الدراسات التي تناولت التأثير السيئ لتلوث الهواء على صحة الأطفال، منها دراسة حديثة نشرت في مطلع مايو (أيار) الماضي في دورية سموم الأعصاب والتشوهات الخلقية Neurotoxicology and Teratology. أشارت هذه الدراسة، التي قام بها باحثون من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، إلى أن الأمهات الحوامل اللاتي يتعرضن لتلوث الهواء بجانب المعاناة من الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية يتسببان في نقص مستوى الذكاء بالنسبة لأطفالهن في عمر الخامسة، مقارنة بأقرانهم الذين ولدوا لأمهات تمتعن بمستوى اقتصادي أعلى ومستوى أقل تلوثا من الهواء. ومن المعروف أن فرص تلوث الهواء تزداد في المدن أكثر من الأرياف نتيجة لتعدد مصادر التلوث من مركبات النقل المختلفة، وكذلك مولدات الطاقة، وزيادة معدلات التدخين خاصة في الدول التي يكثر فيها تدخين الشيشة. وأيضا هناك خطر يواجه الدول الفقيرة التي توجد بها صناعات معينة تمثل خطورة على صحة الإنسان، والتي تقيمها الدول الغنية، حيث إنها لا يمكنها إقامة تلك المصانع في دولها المتقدمة. وقد تتبع الباحثون 276 من الأمهات من خلال سجلات متابعة الحوامل في المناطق الحضرية من ولاية نيويورك بالولايات المتحدة، وذلك في الفترة منذ بداية حملهن وحتى بلوغ الأطفال الطفولة المبكرة في نحو الخامسة من العمر. وكانت الأمهات خلال تلك الفترة قد تعرضن لاستبيان حول أحوالهن الاقتصادية، وعما إذا كانت أحوالهن المعيشية جيدة من عدمه، ومنها توفر الاحتياجات الأساسية من متطلبات الحياة مثل الغذاء الكافي والملابس وغيرها. وأيضا كن جميعا قد تعرضن لتلوث الهواء ومعظمهن كن يقطن في مناطق شديدة التلوث والزحام. وتم قياس معدلات الذكاء في مراحل متفرقة وفترات زمنية مختلفة. * تأخر الأطفال وظهر أن بعض هؤلاء الأطفال تأخر في الكلام حتى عمر الثالثة، وبعضهم سجل درجات منخفضة في اختبارات الذكاء عند عمر الخامسة، وكذلك أيضا في عمر السابعة حينما تمت إعادة تلك الاختبارات. وبجانب ذلك أصيب الكثير من هؤلاء الأطفال بأعراض الاكتئاب والقلق والمخاوف. وكانت تحاليل العينات المأخوذة من الحبل السري للأمهات الحاملات بهؤلاء الأطفال قد أظهرت ارتفاع نسبة التلوث في الدم، كما تعرض معظم هؤلاء الأمهات لضائقة اقتصادية. وأظهر هؤلاء الأطفال صعوبة في استرجاع المعلومات التي يعرفونها في عمر السابعة. وكانت الذاكرة الفاعلة working memory لديهم ضعيفة. والمثير أن نفس الأطفال الذين عانت أمهاتهم من التلوث أظهروا اختلافا في معدلات الذكاء تبعا للحالة الاقتصادية التي مرت بها الأم، سواء أثناء الحمل أو لاحقا، حيث إن الأطفال الذين لم تعاني أمهاتهم من الفقر أظهروا مستوى أعلى من الذكاء من أقرانهم الآخرين. وأثبتت الدراسة أن الفقر يضاعف من تأثير العوامل البيئية الأخرى، وخصوصا تلوث الهواء، وهو الأمر الذي أوصت الدراسة بضرورة تلافيه، وضرورة الرعاية النفسية للأمهات الحوامل اللاتي يتعرضن لظروف اقتصادية سيئة، وخاصة اللاتي يقمن في أحياء صناعية وقريبة من التلوث. وكانت دراسة أميركية في العام السابق قد انتهت إلى نفس النتائج وأشارت إلى أن تلوث الهواء مسؤول عن أمراض السلوك في الأطفال واضطراب الوجدان، خاصة مرض فرط النشاط وقلة التركيز ADHD. * أمراض التلوث وكان الباحثون قد قاموا بتتبع المئات من السيدات الحوامل في نفس ولاية نيويورك وهؤلاء الأمهات كن غير مدخنات، ولاحظوا أن الأطفال المولودين لأمهات تعرضن للكثير من تلوث الهواء زادت لديهم الفرصة 5 أضعاف لحدوث أمراض السلوك وزادت فرص حدة الأعراض في الأطفال مرضى نقص الانتباه وفرط النشاط في فترة المدرسة في نحو عمر التاسعة عن أقرانهم الآخرين المصابين بنفس المرض، لكن تعرضت الأمهات لكمية أقل من تلوث الهواء. وحسب إحصائيات مركز مراقبة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة فإن ما يقرب من 10 في المائة من الأطفال الأميركيين يعانون من أعراض مرض نقص الانتباه وفرط النشاط في الفترة العمرية من 4 أعوام وحتى 17 عاما، لكن بطبيعة الحال تختلف هذه الأعراض اختلافا كبيرا في الحدة والتكرار. والكثير جدا من هذه النسبة لا يتم تشخيصها بشكل جيد حيث يعتبرها الآباء مجرد سلوك طبيعي من الطفل. ولكي يظهر الباحثون الدور الكبير لتلوث الهواء في المسؤولية عن إصابة الأطفال بأمراض السلوك قاموا بقياس مواد معينة (تشير إلى زيادة التلوث) في بول الأطفال وجاءت النتائج مؤكدة. وأوصت هذه الدراسات بضرورة الحد من انتشار تلوث الهواء وبذل كل الجهود للحفاظ على صحة الأطفال بحيث تتم مراعاة عوامل الأمان من خلال المسؤولين عن البيئة، وأيضا يجب علاج المشكلات النفسية التي تعاني منها الأمهات ومعالجة هذه الأسباب سواء اقتصادية أو نفسية حتى لا تؤثر بالسلب على الأطفال الصغار. * استشاري طب الأطفال
مشاركة :