في مقابل إبراهيم الصلحي تقف كمالا إبراهيم اسحق. لا لأنها امرأة وحسب، بل لأنها أيضا نجحت في أن تقف بريادتها الفنية خارج أسوار “مدرسة الخرطوم” ذلك الاتجاه الفني الذي مثل الشخصية السودانية بمزيجها العربي الأفريقي. ربما كان ظهور كمالا استدراكا لخطأ وقعت فيه مدرسة الخرطوم حين ركز أعضاؤها وفي مقدمتهم الصلحي على الإيحاء بدلا من الولوج إلى الحياة المباشرة التي عرفت كمالا الفنانة الطريق إليها بل وكشفت عن مسراتها وأوجاعها. أحدثت رسومها تحولا كبيرا في تاريخ الحداثة الفنية في السودان فكانت المرأة هي عنوان ذلك التحول. لقد رسمت كمالا المرأة السودانية كما لم يرسمها أحد من أبناء جيلها أو الأجيال اللاحقة فكانت رسومها بمثابة تسجيل تعبيري لطقوس وعادات المجتمع السوداني الذي تديره المرأة بقدر لافت من القوة والتسامح والرقة والحنان. المرأة هي المستقبل كانت المرأة سلاحها في مواجهة مدرسة الخرطوم التي صارت تدريجيا تدخل في غياهب التراث. ذلك ما دفع كمالا إلى الاحتجاج على الاتجاه الفني الذي انخرطت فيه في بداية حياتها الفنية لتؤسس “الجماعة الكرستالية” وهي جماعة كانت تدعو إلى الانفتاح على الحياة ورؤيتها من أوجه عديدة مثلما يحدث مع البلور. كان الفن بالنسبة لها محاولة طليعية للنظر إلى الحياة باعتبارها مشروعا للكشف عن المستقبل. تقيم لوحات كمالا في ما لا يُرى من الجانب المشرق من حياة المرأة. لقد رسمت الزار في لوحات كبيرة الحجم كما لو أنها تقوم بتحضير الأرواح. هي لوحات يمتزج من خلالها الروحي ممثلا لقوة الغياب والمادي الذي يظل مرتبطا بحضور المرأة باعتبارها قوة رمزية. مزجت كمالا من خلال المرأة بين ما عاشته في الحياة المباشرة وما تخيلته حين مباشرة الرسم فلم تكن رسومها وثائق إلا من جهة ما تمثله من حالات جمالية فريدة لا يمكن أن تلتقطها عينا رجل. المرأة بالنسبة لكمالا هي كنز السودان الخيالي. المرأة في رسوم كمالا هي أشبه بالبلورة التي تكشف عن العالم في وجوهه المختلفة. فهي أي المرأة تقيم علاقة بالماء والأرض والسماء والأرواح في سياق نظام خاص بها هو نظام لا يمكن الإحاطة به من خلال ما حدث سابقا. المرأة هي المستقبل. الرسم باعتباره قوة حياة ولدت كمالا إبراهيم اسحق عام 1939. درست الرسم في القسم العالي للفنون بمعهد الخرطوم التقني وأنهت دراستها عام 1963 بعدها انتقلت إلى لندن لتدرس في الكلية الملكية للفنون. حين عادت إلى السودان مارست التدريس في المعهد الذي درست فيه. بعد ذلك انتقلت للتدريس في جامعة مسقط. عرضت أعمالها في أثنين من أهم المواقع الفنية بلندن. الأول هو وايت تشبيل والثاني هو مركز كامدن للفنون. توجت كمالا مسيرتها الفنية بالحصول على جائزة الأمير كلاوس الهولندية عام 2019 بعد أن كان قد حصل عليها إبراهيم الصلحي قبلها. منذ بداياتها نظرت كمالا إلى المنطلقات النظرية لرواد الحداثة في بلادها بعين قلقة. وهو ما دفع بها إلى أن تنسحب من جماعة “مدرسة الخرطوم” لا لتستقل بنفسها بل لتؤسس جماعة فنية، أطلق عليها تلاميذها اسم “المدرسة الكريستالية”. ظهور كمالا يعد استدراكا لخطأ وقعت فيه مدرسة الخرطوم حين ركز أعضاؤها وفي مقدمتهم الصلحي على الإيحاء بدلا من الولوج إلى الحياة المباشرة التي عرفت كمالا الفنانة الطريق إليها بل وكشفت عن مسراتها وأوجاعها لقد عز عليها أن يتم اختزال الحياة الحقيقية بالخط العربي. ذلك من وجهة نظرها لم يكن تصرفا صحيحا. لذلك أعلنت موقفا رافضا للتراث باعتباره قفصا ماضويا لا يمكن مغادرته بنتائج جمالية تكون ذات صلة بالحقائق اليومية. في حقيقة الدافع الذي جعلها تتخذ ذلك الموقف كانت المرأة هي الجوهر. فمن خلال المرأة يمكن النظر إلى الحياة باعتبارها مجموعة متلاحقة من التحولات المتنوعة. تلك امرأة صنعت لنساء بلادها حيزا محترما في الرسم الذي هو مجال نضالها. فليس في الإمكان النظر إلى كمالا إلا باعتبارها مناضلة. عام 1965 أعلنت انفصالها عن جماعة مدرسة الخرطوم ومضت تشق طريقها حاملة رؤى غامضة غير أنها كانت تعرف أن تلك الرؤى ستنقذ الرسم من عزلته النخبوية. وهو ما حدث فعلا. لقد اكتسب الرسم الحديث في السودان مع كمالا وأتباعها مساحة مضافة هي تجسيد عن حاجته لأن يكون جزءا من الحياة الحقيقية. الحياة مقابل الرسم لم يكن الاتجاه الذي قادته كمالا نسويا كما قد يُخيل إلى البعض. بالقوة نفسها لم يكن أسلوبها وصفيا. لقد حظيت الحياة على النيل باهتمامها. تلك حياة وهبتها النساء المعنى الحقيقي لها. ذلك ما حاولت كمالا أن تقوله بأسلوب تعبيري بعيد عن الوصف. سيكون من الصعب القبض على تلك التجربة في واحدة من صورها. فهي متعددة ومتداخلة الصور. أن ترسم حياة متموجة وعميقة وساحرة مثل مياه النيل عليك أن تعيشها. ذلك ما فعلته كمالا وهي تسعى إلى مساءلة رسومها في استجواب روحي. فضلت كمالا أن تكون ابنة النيل لا صانعة رسوم. سحر صفتها فاق ارتباطها بمهنتها من جهة تأثيره. لقد رسمت لتختبر قدرتها على العيش. فهي امرأة كما أولئك النساء اللواتي ترسمهن، غير أن شعورها بجمال أفعالهن هو ما يميزها وما يجعلها قادرة على أن تقول ما تقوله أجسادهن. وجدت كمالا في الرسم فرصة لاكتشاف خيال المشهد. إنها تكتشف المشهد من خلال خياله. ذلك هو سحر الرسم لذي هو بالنسبة لكمالا انعكاس لسحر الحياة المباشرة. سيكون عليها دائما أن تعيد الرسم إلى الحياة التي لا يمكن اختصارها بواحدة من لحظاتها. لذلك أطلقت كمالا تيارها الفني الذي يمكن القول إنه يجسد الحياة مقابل الرسم. الفصل بين عالمين سيُقال دائما إن كمالا هي صاحبة قضية وحاملة رسالة. غير أن ذلك الحكم لا يمثل إلا نصف الحقيقة. فكمالا فنانة مبدعة أولا وأخيرا. إن كانت تدافع عن قضية ما فذلك لا يعني أنها مستعدة لأن تضع الفن في خدمة تلك القضية كما يفعل الفنانون الملتزمون سياسيا. تلك مسألة شائكة قد يطول النقاش حولها وقد لا يكون ذلك النقاش نافعا. ما هو مؤكد أن كمالا أنتجت فنا رفيع المستوى ومستقلا بجمالياته المتحررة من كل قيود مسبقة والتي يمكن النظر إليها باعتبارها خلاصات نظر، بالرغم من أن الفنانة لم تغمض عينيها ولو للحظة واحدة عن المرأة السودانية في أحوالها المختلفة. لقد نجحت كمالا في الفصل بين عالمين. عالم تراه بشكل مباشر وتسعى إلى أن تكون صوته العالي المعبر عن حاجاته وعالم تتخيله وتحاول أن تستخرج خلاصاته التي لا تُرى إلا من خلال عيني فنان. ذلك ليس بالأمر اليسير. ولأن كمالا حافظت على توازنها باعتبارها مناضلة في الحياة كما في الفن فإنها صنعت من خلال غزارة نتاجها أسلوبها الشخصي الذي انعكس تأثيره على أجيال من الفنانين السودانيين. وبالرغم من أنها قد اُعتبرت في ستينات القرن الماضي قائدة لاتجاه فني اتبعه الكثيرون غير أنها لم تحصر فنها في حدود ذلك الاتجاه الذي كانت هي مبتكرته وواضعة أسسه. كانت حريصة على حريتها في الفن وهو ما جعلها تعيش حالة ابتكار وتجدد دائمة سعيا منها لتحرير الفن السوداني الحديث من أفكار وأساليب جيل الحداثة الأول الذي التزم فنانوه بمبادئ نظرية لم يفارقوها حتى هذه اللحظة.
مشاركة :