صعّدت تركيا مؤخراً، على لسان وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، تهديداتها بالقيام بعملية عسكرية جديدة ضد الوحدات الكردية شرق الفرات، بحجة عدم التزام الطرفين، الروسي والأميركي، بإبعاد الوحدات مسافة 32 كيلومترا عن الحدود التركية. التهديد جاء بعد أن كانت أنقرة قد رضيت بحصتها شرق الفرات، بين مدينتي رأس العين/ سريه كانييه وتل أبيض، بمسافة 120 كيلومترا وعمق 32 كيلومترا، والتي ارتضاها لها الجانبان الروسي والأميركي، بعملية “نبع السلام”، التي بدأت في 9 أكتوبر الماضي؛ حيث أعلنت حينها “عدم الحاجة إلى القيام بعملية عسكرية جديدة”. هناك عاملان وراء التصعيد التركي الجديد، الأول يتعلق بالجانب الروسي، والآخر يتّصل بالجانب الأميركي: فهناك خلاف روسي- تركي حول السيطرة على بلدة “تل تمر” الاستراتيجية، باعتبارها عقدة طرق تمر منها طريق الحسكة رأس العين، وتتفرع منها الطريق الدولية أم 4، من حلب إلى الحسكة والقامشلي، وتبعد 40 كيلومترا شمال الحسكة، و35 كيلومترا شرق رأس العين، وأقل من 30 كيلومترا عن الحدود التركية. رفضت تركيا المقترح الروسي إخراج قوات سوريا الديمقراطية من البلدة، وبقاء سيطرة الأسايش ومؤسسات الإدارة الذاتية، مقابل تراجع الفصائل المدعومة من تركيا مسافة أربعة كيلومترات شمالاً، حيث تتولى الشرطة العسكرية الروسية وقوات حرس الحدود السورية مهمة حماية البلدة والطريق الدولية أم 4؛ فقد اعترض الجانب التركي على بقاء الأسايش ومؤسسات الإدارة الذاتية في المدينة. من المستبعد أن يحدث انسحاب أميركي جديد لصالح سيطرة تركيا، نتيجة التأييد الأميركي الداخلي لقوات سوريا الديمقراطية، وباعتبار أن إعلانات ترامب المتكررة بالانسحاب لا تعدو أن تكون بروباغندا إعلامية لإرضاء ناخبيه وكذلك رفض الجانب الروسي المطلب التركي بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية من الطريق الدولية أم 4 ومن المدينة، وطالب الأتراك مجدداً بتنفيذ اتفاق سوتشي في 20 أكتوبر، وانسحاب الوحدات الكردية بعمق 32 كيلومترا، وتدمير تحصيناتها. وغير ذلك، ما زال الخلاف قائما حول منبج وتل رفعت، اللتين أصبحتا تحت سيطرة الروس، حيث لم تنسحب الوحدات الكردية منهما وفق ما يرغب فيه الأتراك، ووفق التنسيق مع الأميركان، وكذلك مع الروس. أما المستجد مع الجانب الأميركي فيتعلق باتصال فرهاد عبدي شاهين، المعروف بمظلوم عبدي والقيادي البارز في قوات سوريا الديمقراطية، بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وامتداح الأخير له، ما أثار غضب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي طالب واشنطن بتسليمه إلى تركيا؛ كما أغضبت أنقرةَ أيضا مطالبةُ أكثر من سيناتور أميركي بضرورة منح عبدي تأشيرة دخول إلى بلادهم، لمناقشة تطورات الوضع في المنطقة. وبالإضافة إلى ترامب، تواصل مع عبدي أيضاً وزير الدفاع الروسي وقائد الجيش الروسي، بعد نجاح قوات سوريا الديمقراطية في إنهاء سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على آخر جيب له في “الباغوز”، ما أغضب الأتراك. هذا ينبئ بدور بارز للقيادي عبدي في العمليات العسكرية للوحدات الكردية، سواء في قتال تنظيم داعش، أو في مواجهة الفصائل السورية المدعومة من تركيا في عملية “نبع السلام”؛ ففضلاً عن علاقاته الداخلية الواسعة مع محيطه الفصائلي الكردي، ومع النظام السوري، وخارجياً مع ساسة الغرب، كان، في تسعينات القرن الماضي، شخصية مقربة من الزعيم الكردي التركي، عبدالله أوجلان، المحتجز في تركيا. بالنسبة إلى السياسة الأميركية التي باتت تميل إلى الانسحاب من سوريا، دون تركها كلياً للروس والأتراك، أو السماح بعودة تنظيم داعش، فإن الرئيس ترامب يحاول تغيير الصورة في الداخل الأميركي بأنه تخلى عن حليفه الكردي، الموثوق في محاربة تنظيم داعش، وأنه تركه عرضة للانتقام التركي؛ خاصة أن ترامب يواجه ضغوط بعزله من قبل الكونغرس. في كل الأحوال، منعت واشنطن موسكو وحكومة دمشق من الاستفادة من حقول النفط والغاز، بإبقاء سيطرتها عليها، وتسيطر، مع حليفها الكردي، على شرق القامشلي وحتى الشريط الحدودي مع العراق، وما زالت تسيطر جوياً على شرق الفرات، وغير ذلك، هي تنسق مع موسكو حول إدارة السيطرة على المنطقة بما يحدّ من نفوذ واسع لتركيا، وبما يمنع الاحتكاك بين القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها، وبين وحدات حماية الشعب الكردية؛ فقد سلمت القوات الأميركية روسيا قاعدتي “عون الدادات” و”العسلية” في منبج، وقاعدتي “مشتى النور” و”صرين” في ريف عين العرب/ كوباني، وقاعدة مطار “عين عيسى” بريف الرقة الشمالي، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. وبنت روسيا قاعدة إضافية لها في مطار القامشلي، فيما يبدو أن أنقرة تفضل تواجد شرطة عسكرية روسية وقوات النظام على الحدود المتاخمة لمناطق سيطرتها، حيث يتجنب الطرفان الاحتكاكات، على أن تجاور القوات الكردية. وتحاول روسيا تثبيت نقاط الفصل بين قوات “نبع السلام” والوحدات الكردية، عبر شرطتها العسكرية مع حرس الحدود السورية، أو عبر تشارك قوات النظام مع الوحدات الكردية، الأمر الذي لا يريح تركيا من ناحية تهدئة هاجسها الأمني. وبذلك باتت في شرق الفرات ثلاث مناطق نفوذ: الأولى تحت السيطرة الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية، وتمتد من المالكية/ ديريك على نهر دجلة أقصى الشمال الشرقي، وحتى القامشلي، وتمتد بموازاة الحدود العراقية إلى دير الزور. والثانية منطقة “نبع السلام” تحت نفوذ تركيا والفصائل الموالية لها، بين رأس العين وتل أبيض، وتسعى تركيا إلى فتح معبر أكتشا قلعة الحدودي مقابل تل أبيض أمام الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية وأمام عودة المدنيين من تركيا، وفق التصريحات التركية، كنوع من البروباغندا الإعلامية للحصول على دعم غربي حول إعادة اللاجئين، واستكمال السيطرة على الشريط الحدودي. أما المنطقة الثالثة، فتقع تحت سيطرة القوات الروسية وقوات النظام، وتمتد من عين عيسى شمال الرقة إلى كل من منبج وعين العرب/ كوباني وتل تمر بريف الحسكة. من المستبعد أن يحدث انسحاب أميركي جديد لصالح سيطرة تركيا، نتيجة التأييد الأميركي الداخلي لقوات سوريا الديمقراطية، وباعتبار أن إعلانات ترامب المتكررة بالانسحاب لا تعدو أن تكون بروباغندا إعلامية لإرضاء ناخبيه. في حين أن روسيا التي وافقت على حدود عملية نبع السلام، تنظر إلى التنسيق مع تركيا على أنه مرحلي، وتتطلع إلى استعادة سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية. فيما لا يمكن لأنقرة أن تقوم بعمل عسكري جديد دون ضوء أخضر مزدوج أميركي وروسي.
مشاركة :