نجت فرنسا سنة 1944 من عملية تخريب واسعة كانت ستطال أحد أهم موانئها لتتسبب في خسائر مادية وبشرية جسيمة. ويعود الفضل في إفشال هذه العملية لأحد الجنود العاملين لصالح سلاح البحرية الألمانية، المعروف بالكريغسمارين (Kriegsmarine)، إذ رفض الأخير تنفيذ الأوامر الموجهة إليه، واضعا بذلك حياته على المحك لإنقاذ أحد الشرايين الأساسية للاقتصاد الفرنسي. وعقب هزيمة فرنسا ورضوخها لمطالب الألمان خلال شهر حزيران/يونيو 1940، وقعت كامل مناطق الساحل الغربي الفرنسي في قبضة الجيش الألماني فاتجهت بذلك الكريغسمارين لاستغلال الموانئ الاستراتيجية بهذه المنطقة لشن عمليات عسكرية أكثر فاعلية ضد البريطانيين بالمحيط الأطلسي. بوردو تقع بقبضة الألمان ومن ضمن هذه المناطق الاستراتيجية، وقعت مدينة بوردو وميناؤها في قبضة الألمان، إذ أمر النازيون بإرسال نحو 30 ألف جندي لتأمين هذه المنطقة التي ظلت قابعة تحت سيطرتهم لنحو 4 سنوات قبل انسحابهم منها في حدود شهر آب/أغسطس 1944. ومن بين القوات الألمانية التي تواجدت ببوردو، عمل الملازم بالبحرية هاينز ستالشميت (Heinz Stahlschmidt) بميناء المدينة، حيث اختص الأخير في مجال القنابل فأصبح خبيرا في تفكيك الألغام البحرية البريطانية. وطيلة فترة تواجده بميناء بوردو، أكبر موانئ فرنسا حينها، احتك هاينز ستالشميت بسكان المدينة فتعلم اللغة الفرنسية وأصبح مع مرور الوقت متفتحا ومقربا منهم كما وقع في حب فتاة فرنسية من بوردو حملت اسم هينريات بويسون (Henriette Buison). وقبيل الانسحاب من بوردو، تلقّى هاينز ستالشميت يوم 19 آب/أغسطس 1944 أوامر من القيادة العسكرية الألمانية باستخدام كميات من المتفجرات المخزنة بأحد المعاقل على بعد كيلومترات من الميناء لنسفه وتدميره لمنع الحلفاء والمقاومة الفرنسية من استخدامه عند دخولهم للمدينة. ومع حصوله على هذه الأوامر، رفض هاينز ستالشميت تطبيقها حيث عارض الأخير فكرة تدمير أحد مرافق بوردو التي أحبّها، مؤكدا على عدم وجود أي نفع من ذلك بعد أن باتت هزيمة بلاده بالحرب مؤكدة. ويوم 22 آب/أغسطس 1944، أقدم هاينز ستالشميت على تفجير مستودع بوسط بوردو خزّنت بداخله كميات هائلة من المتفجرات المعدة لتخريب الميناء. وقد أدى هذا الانفجار الذي أذهل السكان المحليين إلى تدمير عدد من المباني القريبة المملوكة للقيادة عسكرية الألمانية ومقتل ما يزيد عن 50 جنديا ألمانيا. وبحسب الفرنسيين، تمكّن هاينز ستالشميت بفضل هذه العملية من إنقاذ ميناء بوردو إضافة لنحو 4 آلاف فرنسي ممن كانوا يعملون أو يقطنون بأماكن قريبة منه. قرار بإعدام ستالشميت ومع نجاح هذه العملية، صنّفت القيادة العسكرية الألمانية هاينز ستالشميت كخائن وأصدرت أوامرها بالقبض عليه وإعدامه رميا بالرصاص. وبينما جاب عناصر الشرطة السرية الألمانية شوارع بوردو بحثا عنه، سلّم هاينز ستالشميت نفسه للمقاومة الفرنسية، وأخبرهم عن مجريات العملية التي قادها ليجد بذلك ملجأ لديهم وعمد المقاومون حينها لإخفائه بأحد المنازل. وبينما اعتبر بطلا محبوبا بفرنسا، صنّف هاينز ستالشميت عقب نهاية الحرب كخائن لدى الألمان وحذفت البحرية اسمه من سجلاتها ورفضت منحه راتبه التقاعدي. من جهة ثانية، استقر هذا الملازم السابق بالبحرية الألمانية بمدينة بوردو عقب استسلام بلاده فغيّر اسمه واتخذ الاسم الفرنسي هنري سالميد (Henri Salmide) وتزوج من صديقته السابقة هينريات بويسون، وحصل لاحقا على الجنسية الفرنسية ووسام جوقة الشرف كتكريم له على إنقاذه لمدينة بوردو وسكانها أواخر الحرب العالمية الثانية.
مشاركة :