في الثاني عشر من شهر مايو الجاري، بيعت عشرة آثار فنية في نيويورك عبر دار " كريستيز" من خلال مزاد علني تاريخي. فقد حطمت مبيعات بعض هذه الأعمال أرقاما قياسية ومنها مثلا لوحة "نساء الجزائر" للرسام الإسباني بابلو بيكاسو. وكان بيكاسو قد وضعها في عام 1955 واستوحاها من لوحة تحمل المسمى ذاته كان الرسام الفرنسي أوجين لاكروا قد صاغها في عام 1834 أي بعد مضي أربعة أعوام فقط على احتلال الجزائر من قبل فرنسا. وبيعت لوحة بيكاسو ب179 مليونا و360 ألف دولار. وكذا الشأن بالنسبة إلى منحوتة "الرجل الذي يشير باصبعه" للنحات السويسري الشهير ألبيرتو جياكوميتي الذي ولد عام 1901 وتوفي عام 1966. فقد بيعت ب141 مليونا و200 ألف دولار. وإذا كانت لوحة بيكاسو قد بيعت بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من وضعها في المزاد العلني، فإن منحوتة "جياكوميتي" بيعت في أقل من أربع دقائق. وإن دل هذا على شيء فهو يدل حسب المتخصصين في سوق الآثار الفنية وبخاصة تلك التي تصاغ في إطار الفنون الجميلة على أن هذه السوق أصبحت في حد ذاتها فرعا من الاقتصاد شأنها في ذلك شأن اقتصاد الطاقة والاقتصاد الأخضر واقتصاد المعرفة. وهناك اليوم شبه إجماع لدى المتخصصين في سوق الآثار الفنية المتصلة بشكل خاص بالرسوم والمنحوتات على أن هذه السوق ستظل رائجة في المستقبل وأنها ستقوي العلاقة بين الثقافة والاقتصاد لأسباب كثيرة يمكن حصر أهمها في النقاط الأربع التالية: أولا : تزايد عدد مستهلكي الفن عبر إبداعات الرسامين والنحاتين. وكان هذا العدد لا يتجاوز في أعقاب الحرب العالمية الثانية 500 ألف شخص فارتفع اليوم إلى قرابة 70 مليون شخص. ثانيا : تزايد عدد موسري الحال من الذين أصبحوا يستثمرون في الفن لأنهم يعتبرونه استثمارا مربحا. فبإمكان هؤلاء تحقيق أرباح طائلة في سنوات قليلة عبر الآثار الفنية المتميزة وتجنب هزات بورصات القيم الأخرى التي ليست لديها صلة بالفن. وأصبحت الصين الشعبية والبلدان ذات الاقتصادات الصاعدة وروسيا وبعض الدول العربية ولاسيما الخليجية مصدرا أساسيا يغذي سوق مستهلكي الآثار الفنية والتعامل معها في الوقت ذاته باعتبارها استثمارا ماليا جيدا. ثالثا: تزايد الاهتمام بالاستثمار في الآثار الفنية من قبل الدول والشركات الكبرى وحتى الأفراد لتطوير السياحة الثقافية من خلال شراء تحف فنية توضع في المتاحف. ويؤكد التقرير السنوي الأخير الذي تصدره مؤسسة " أرت برايس" الفرنسية المتخصصة في اقتصاد الآثار الفنية أن مبيعات هذه الآثار قدرت عام 2014 ب15 مليارا و200 مليون دولار أي بنسبة تفوق 26 في المائة عما كانت عليه عام 2013 وأن المتاحف التي أطلقت في العالم منذ عام 2000 تجاوز عددها مجموع ما أطلق من متاحف خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. رابعا: دخول سوق الآثار الفنية المتصلة بإبداعات الفنون الجميلة في مرحلة أصبح بالإمكان خلالها تقويم هذه الإبداعات من الناحية الفنية والمالية بالاعتماد على سلسلة من المقاييس الدقيقة إلى حد ما خلافا لما كان عليه الأمر من قبل. وثمة اليوم دعوات متزايدة لدى عدد من النقاد ورجال الاقتصاد تلح على ضرورة توسيع دائرة المستفيدين من إدراج الأعمال الفنية في الدورة الاقتصادية. ويقول هؤلاء إن سكان أستراليا الأصليين تمكنوا من إنقاذ ثقافتهم وهويتهم من الاندثار عبر رسومهم التي تباع اليوم في أسواق الفنون الجميلة في العالم كله. وبالإمكان فتح هذه الأسواق في المستقبل أمام إبداعات شعوب أخرى تهدد العولمة أو التغيرات المناخية القصوى حياتها أو هوياتها أو ثقافاتها. ويخلص أصحاب هذه الدعوات إلى القول إن تشجيع الإبداع الداخلي في كل بلد من قبل سكانه شرط أساسي للانخراط في هذه السوق بشكل واعد لأن الأمة التي تكتفي باستهلاك إبداع الأمم الأخرى والاستثمار فيه لا يمكن أن تستفيد في نهاية المطاف كثيرا من اقتصاد الإبداع الفني إذا لم تكن بدورها مبدعة.
مشاركة :