بينما تستعد الأمم المتحدة للاحتفال باليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يوافق إصدارها قرار التقسيم 29 نوفمبر 1947، تتكرر دعوات في العالم العربي لإصدار قوانين تجرّم التطبيع مع اسرائيل، وما ينادى به علنا في تونس بعد الثورة يردد بقوة أيضا بعيدا عن الإعلام الرسمي في دول أخرى من المنطقة. لكن هذه الدعوات ليست منسجمة مع الواقع اليومي لأكثر من خمسة ملايين من الشتات الفلسطيني في الدول العربية منذ هجراتهم الأولى بعد قرار التقسيم. إذ كان من باب أولى وأحرى أن يتم تمتيع الفلسطينيين بحقوقهم المدنية والمواطنية كاملة بعد عقود طويلة من اللجوء، في خطوة أولى قبل التسويق لمشاريع تجريم التطبيع الدبلوماسي. منذ اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 تعددت التعريفات في القوانين والمواثيق الدولية للاجئ الفلسطيني، غير أن أغلبها أجمعت على حق العودة إلى الديار، وأن يتمتع في الأثناء اللاجئون بالخدمات والحقوق الأساسية في دول اللجوء. وفي الواقع لا تلقى أغلب تلك الاتفاقات الدولية صدى في الدول العربية حتى في ما يرتبط بقضية اللاجئ الفلسطيني. وبخلاف بروتوكول الدار البيضاء لعام 1965 الذي دعا صراحة إلى معاملة الفلسطينيين كمعاملة المواطنين العاديين، فإن أغلب الدول العربية لم تُعرب عن التزام رسمي وقانوني تجاه اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها. ظل تعامل العرب مع الفلسطينيين منذ عقود طويلة قائما على مبدأ التضامن العربي وبعض البنود الفضفاضة، مثل البند الثاني لميثاق الجامعة العربية بدعوى الإبقاء على هوية الفلسطينيين. وفي أفضل الحالات فإن الأمر الغالب هو استخدام التعليمات والقرارات الإدارية الخاضعة لمزاج الحكم والتقلّبات السياسية، بحيث يمكن التراجع عن أي حقوق دون أن يترتب عن ذلك أي مسؤولية قانونية على الدولة. ففي أغلب الدول العربية لا يملك الفلسطينيون حق التملك ولا الإقامة الدائمة بشكل تلقائي ولا حرية التنقل، إذ يضطرون في الغالب إلى تجديد هذه الإقامات بشكل دوري ولا يحق لهم الالتحاق بالوظائف العامة ولا التمتع بالخدمات في المؤسسات العامة. كما لا يحظى الفلسطينيون بحق الحصول على جنسية البلد المستضيف برغم السنوات الطويلة التي يقضونها في هذه الدول حتى أصبحوا يتحدثون لهجاتهم وتطبّعوا قلبا وقالبا بطباع أهلها وعاداتهم وتصاهروا معهم فأصبح من العسير تمييزهم عن أهل البلد، وهذا على عكس الدول الغربية المستضيفة التي تمنح حق التمتع بجنسية الدولة والاندماج الكامل لكل المهاجرين، بما في ذلك اللاجئون متى توفرت فيهم شروط مدة الإقامة. وقد يفهم من هذا السياق أن حجة هذا الرفض لدى الدول العربية أن منح هذا الحق سيضعف من الحق التاريخي للعودة ويدفع إسرائيل إلى التنصّل من الشرعية الدولية، ولكن حكومات هذه الدول لا تخص الفلسطينيين بقوانين تيسر عليهم حياتهم بل تجعلهم في وضع معلق بشكل دائم وبلا أفق واضح للأجيال الجديدة، فلا هذه الدول ضمنت لهم حق العودة واسترداد أملاكهم وأراضيهم وديارهم ولا هي يسّرت لهم حياتهم اليومية. وحتى استقبال تونس لفلسطينيي منظمة التحرير بعد مغادرتهم لبنان عام 1982 ليس واضحا تحت أي بند قانوني يتم التعامل مع من بقي منهم وأبناؤهم حتى اليوم، هل هم مهاجرون بقرار سياسي أم هم لاجئون تنطبق عليهم الصفة الكاملة للاجئين كما تعرّفها اتفاقية جنيف لعام 1951 وما جاء بعدها. عمليّا ليس هذا وذلك لأن شهادات كثيرة عن فلسطينيين في هذا البلد تعكس امتدادا لواقع مرير في دول أخرى من المنطقة، ولو أنها تظل أقلّ وطأة مما يعيشه الفلسطينيون في لبنان وسوريا اليوم، وفي عراق ما بعد صدام حسين أو في ليبيا ما بعد العقيد الراحل معمر القذافي. وحده الأردن يظل استثناء في المنطقة العربية حيث يشكّل الفلسطينيون المندمجون بشكل كامل ما نسبته 50 بالمئة من التركيبة السكانية. ولكن عدى ذلك فإن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في أغلب باقي الدول العربية تظل بعيدة عن المعايير الدولية كما لا ترتقي إلى الحد الأدنى الذي تضمّنه بروتوكول الدار البيضاء. بعد أكثر من 70 عاما من اللجوء حان الوقت لمراجعة الربط الأجوف بين حق العودة والحق في الحياة في وضع طبيعي. من حق الفلسطينيين أن يحلموا بمستقبل أفضل ويمنحوا حقوقا كاملة بما في ذلك الحقوق المدنية والمواطنية على قدم المساواة مع باقي المواطنين العرب، وأن تكون لهم ديارهم الخاصة ووظائف وحرية التنقل دون أن يمس هذا من الحق التاريخي في العودة واستعادة الأرض. بهذا أولا يمكن حفظ كرامة الفلسطينيين وتجسيد شعار التضامن العربي قولا وفعلا، قبل الدعوة إلى تجريم التطبيع.
مشاركة :