ليس من مبالغة حين نقول إن ساحة التحرير وهي في القلب من بغداد ومركزها الحيوي، شهدت منذ بدء انتفاضة أكتوبر، عراقاً محبباً، بكل ما فيه من تعدد ومفارقات، وما عرف عن العراقيين من ذكاء وحيوية ونشاط إبداعي، ففي الوقت الذي يواجه فيه المنتفضون الرصاص بصدورهم العارية، نجد بينهم الرسام والشاعر والزجال والمنشد والموسيقي والممثل، وكل منهم يحاول أن يرفد الانتفاضة بما يبدع، ويكون هذا الإبداع بعض نشاطها وبعض تاريخها في آن واحد. وما لفت نظري، هو أن كثيرين من المنتفضين في بغداد ومدن عراقية أخرى، يرددون شعر الصديق الراحل عبدالرزاق عبدالواحد، حتى كأنه حاضر بينهم، وتمنيت لو كان حاضراً، ولو كانت هذه الانتفاضة قبل رحيله، لكتب في كل يوم قصيدة، كما كان يفعل في كل مواجهة وطنية، وبتأثير هذا الهاجس، عدت إلى بعض أوراقي لأستحضره شاعراً وصديقاً وموقفاً، وأهدي ما أكتبه عنه إلى المنتفضين الذين طالما أحبهم، وفيهم كثيرون ممن أحبوه. تجربة الستّة عقود لقد أتيح لي أن أعرف عبدالرزاق عبدالواحد منذ بداياته الشعرية، واقترنت هذه المعرفة الشعرية، بمعرفة شخصية، بدأت في أواسط خمسينات القرن الماضي، حيث عمل مدرساً للغة العربية في المدرسة المتوسطة بمدينتي الحلة، وكنت أيامذاك طالباً في الصف الأول المتوسط، وشاءت المصادفة أن أكون واحداً من طلابه، لنصف عام دراسي. ولم يكن عبدالرزاق عبدالواحد مجرد مدرس ناجح يلقي الدروس على طلابه ويلقنهم ما ينبغي أن يُلقنوا من مفردات المنهج المقرر، بل كان وظل يشكل حالة من حضور مؤثر، إذ كان الشاعر في مدينة، لطالما اقترن فيها الشعر بالسحر، وكان أيامذاك، المحرض المعبأ بوعي المواجهة، في مجتمع مهيأ للذهاب بعيداً على هذا الطريق. قصيدة عبدالواحد ظلت تتشكل من خلال ما يدركه من جوهر الشعر وليس استجابة لنزعة كاتب أو رؤية ناقد أما أنا الطالب الآتي من بيئة محافظة، وحافظة شعرية مكبلة بإرث السائد الشفهي ومؤثراته الاجتماعية والدينية، فقد سُحِرت بالمدرس الشاب، حين ابتدأ درس الأدب، بعيداً عن المنهج المقرر، فتحدث عن المهجريين وشعرهم، وتوسع في الحديث عن ميخائيل نعيمة، ثم اختار لنا قصيدة من شعره، كانت: أخي من نحن لا أهلٌ ولا وطنٌ ولا جارُ فكانت من الأسئلة الأولى، التي رافقت إحساسي الأول بالشعر، تلك الأسئلة التي ستمهد لمحاولاتي البكر في كتابة الشعر، وحين كان الافتراق بين المدرس الشاعر والطالب المسكون بهاجس الشعر، استمر التواصل بين الشاعر الذي ترسخ حضوره والفتى المهيأ لدخول مملكة الشعر، عبر القراءة حينا، والاستماع إلى من يردد قصائد الشاعر، وهم كثر، حيناً آخر. ثم كانت مرحلة أواخر الستينات وكانت بغداد حينذاك تتوهج بالأمل على كل صعيد، ولأن الشعراء لا يكبرون، فقد أحسست بأننا نبدأ معاً، وهذا ما كان، فكانت علاقة ظلت تتواصل وتتجدد وتزداد عمقاً إنسانياً وثقافياً، وحين تعرض وطننا للخطر، بدأتْ حسابات الربح والخسارة، ويُجَرِّحني أن أقول: إن هذه الحسابات كانت في أوساط المثقفين أكثر مما كانت في أوساط أخرى. وباتجاهٍ واحد، ضرب إعصار الاحتلال وعواصف الكذب والدجل، وتحولت كلمة السوء إلى دليل فاجر يشير إلى دمنا، بعد أن اغتصبت بيوتنا ومكتباتنا ورسائلنا، وكأن ابن أم صاحب أحد شعراء حماسة أبي تمام، يصف الأدلاء على دمنا في قوله: إنْ يأذنوا ريبةً طاروا لها فرحاً منّي، وما سمعوا من صالحٍ دفنوا صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكِرْتُ به وإنْ ذُكرتُ بشرٍ عندهم أذنوا جهلاً علينا، وجبناً من عدوهمُ لبئست الخلتان، الجهلُ والجُبُنُ يومها كتبت إليه: لا عليك أخي أبا خالد، لأن الأدلاء على دمنا، وهم الأدلاء على وطننا، فشلوا في أن يكونوا أدلاء على قصائدنا ومواقفنا وضحكاتنا، والباقي من أحلامنا، وعلاقتنا بالناس وعلاقة الناس بنا، وها أنت رغم كل ما لقيت من عنت، بقيت وستبقى شامخاً، شاعراً ورجلاً، وإذ أحييك، أستذكر تجربتك الشعرية على امتداد ستة عقود من الزمن، وقد وصلت هذه التجربة مدىً، يجعلها أبعد من أن تتوسل بشهود من أي قبيل. تحدث جان موريا عن الشاعر الفرنسي بول فيرلين فقال “لنترك ذكر مدارس الشعر، فهنا اليوم، لا يوجد إلا شيء واحد هو الشعر”. فلتكن مقولة موريا آنفة الذكر مدخلاً للحديث عن الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد، ليس لأنه أدرك الشعر في تنقلاته بين العناوين الشعرية التي تكتب فيها قصائده، حيث كان الشعر يفتح الباب واسعاً أمام تلك العناوين التي اصطلح على وصفها بالمدارس الشعرية، بل لأنه لم يلتفت في ما كتب من شعر إلى مدارس الشعر واتجاهاته، إلا في حدود ما يجعل قصيدته أقرب إلى جوهر الشعر. وقلت له يوما: أنت تعيدني إلى مقولة فان غوخ “لقد أصبحت ملوناً مستبدا”، وإذ ينصرف استبداد فان غوخ إلى تعامله مع اللون، فإنك تستبد باللغة من دون تكلف أو نبش في المعاجم، وإذ أعود إلى البدايات وأنت الذي شهد أول التحولات في القصيد العربي ولم تنأ بقصيدتك عنها، لم تتكئ على معطيات هذه التحولات وما اقترن بها من تنظير، ولم تكتب قصيدتك لإرضاء هذا الناقد أو ذاك، كما لم تحفل بالذين يقودون كل شيء إلى حالة التحجر، كما يقول المفكر والروائي الأرجنتيني إرنستو ساباتو، بل لم تحفل بما قيل أو كتب عن شعرك، وظلت قصيدتك تتشكل من خلال ما تدرك من جوهر الشعر وليس استجابة لنزعة كاتب أو وجهة نظر ناقد. في أوائل سبعينات القرن الماضي، وفي صباح شتائي بغدادي، كنا قد التقينا في بيت الراحل يوسف الصائغ في حي المنصور ببغداد، عبدالرزاق عبدالواحد وإسماعيل فتاح الترك وأنا، وقتذاك كان الصائغ قد نشر قصيدة “رياح بني مازن” وكتب عبدالرزاق قصيدة “الصوت” وكتبتُ قصيدة “عيّار من بغداد” ودار حديث عن القصيدة الجديدة أو لأقل عدنا إلى الحديث عنها، فهذا الموضوع لم ينقطع عن الحديث فيه، يومذاك قال عبدالرزاق: هذا أمر لا يشغلني، منذ أن بدأ الحوار بشأنه في أواخر الأربعينات، والمهم عندي أن أحقق الانسجام بين ما أكتب وما أريد أن أكتب، ويبدو لي أنه ظل حريصاً على مقولته تلك. وأخيراً أقول: أخي أبا خالد، إذا كان رحيلك قد حال بينك وبين أن تكتب قصائدك لانتفاضة أكتوبر العراقية المجيدة، فأنت حاضر في ما يردد المنتفضون من شعرك، وإن مجموعة من الشعراء الشباب الذين أحبوك وأحببتهم، كبروا وصاروا ملء السمع والبصر، وهم يكتبون قصائدهم الجميلة، فأحس بحضورك من خلال ما يكتبون.
مشاركة :