قضايا عربية ساخنة في مهرجان القاهرة السينمائي

  • 11/26/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

من المؤكد أن الفيلم الجزائري “أبوليلى” الذي عرض في افتتاح تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان القاهرة السينمائي الـ41، لا يخلو من الطموح الفني والرؤية السينمائية التي تبتعد كثيرا عمّا اعتدنا رؤيته في الأفلام الجزائرية عموما، والأفلام الجزائرية التي تتناول ظاهرة الإرهاب بوجه خاص. في أول أفلام المخرج أمين سيدي بومدين الذي قضى سنوات يعمل على سيناريو عمله السينمائي والبحث عن تمويل له، يبتعد عن السائد والمألوف في لغة التعبير وليس السرد، مقتربا من السوريالية بقدر ابتعاده عن الواقعية. ورغم البداية الدرامية القوية التي تشي بما يحدث في واقع الجزائر عام 1994، أي في ذروة أحداث “العشرية السوداء”، سرعان ما يقطع الفيلم مسارا شبه تجريدي، لا ينشغل كثيرا بتحليل الواقع السياسي بل يبدو مهتما أكثر بالفردي، والإنساني، الشخصي، والنفساني، أي ببطليه اللذين يخفي الكشف عن طبيعة عملهما إلى الجزء الأخير من الفيلم الذي يتجاوز زمن عرضه الساعتين. فكرة الخوف في البداية: حادث اغتيال إرهابي، ثم تبادل إطلاق النار بين الإرهابي والشرطة، ثم نخرج من المدينة إلى الصحراء، بعيدا عن العاصمة حيث وقع الحادث الإرهابي، إلى الجنوب الجزائري بطبيعته القاسية الجافة وجباله الحمراء وصحرائه الممتدة التي تصنع بيئة بصرية ملائمة تماما لأحد أفلام الويسترن، غير أننا أمام عمل من نوع الدراما النفسية التي تتعلق بفكرة الخوف.. الخوف من الموت.. من العنف.. ومن المجهول، بل وممّا يكمن داخل الإنسان نفسه من هواجس ومخاوف وكوابيس تتداعى بفعل تجربة العيش والعمل في مناخ يمتلئ بالقتل والدماء. رجلان في سيارة يتجهان إلى حيث لا نعرف بل وربما لا يعرفان. الهدف المعلن هو العثور على إرهابي خطير الشأن يدعى أبوليلى. لكنهما يصبحان تدريجيا أكثر اهتماما بالعثور على السكينة، وهدوء النفس التي لا يمكن لها أن تهدأ. الفكرة شبه تجريدية وإن كانت مغلفة بمناخ الإرهاب في الجزائر. والتجسيد الدرامي يعتمد على أداء الممثلين الاثنين: الأول لطفي، الذي يبدو متماسكا يحاول تهدئة زميله “س” (مقصود ألّا يحمل اسمه وكأنه خرج من إحدى روايات كافكا، أي شخصية لا وجود تاريخيا لها في أرض الواقع).. فالسيد “س” يبدو مصابا بهواجس مخيفة تسيطر عليه، فهو يرى الدماء ويعاني من هجوم الكوابيس المرعبة في الليل، وخلال ذلك، تتداعى الكثير من المشاهد القاسية التي تمتلئ بالدماء والقتل والذبح.. في تقابل مقصود مع فكرة “التضحية” في التراث الإسلامي التي يتعلمها الأطفال خلال الحصص الدينية في المدارس الابتدائية، أي كيف شرع سيدنا إبراهيم في ذبح ابنه إسماعيل لولا أن رحمه الله وجعله يذبح خروفا بدلا منه. "أبوليلى" عمل من نوع الدراما النفسية التي تتعلق بفكرة الخوف؛ الخوف من الموت، من العنف ومن المجهول الكثير من المشاهد التي نراها والتي تستمر على شكل تداعيات تدور في الخيال، تلخص حالة الهذيان التي يعاني منها “س” وشعوره بالفوبيا والرعب من الدماء. لكن الأكثر قسوة أن يرى نفسه وقد أصبح أيضا قاتلا شرها للدماء.. وهو يبدو عديم الحيلة على العكس من زميله لطفي الذي يسيطر على مشاعره وهو الذي يقبض على المسدس تمهيدا لأن يستعين به إذا ما اقتضت الحاجة. ويصوّر الفيلم حالة نفسية وعقلية، ولا يروي قصة محكمة، لذلك هناك اهتمام أكثر ببناء المشاهد المنفصلة التي لا ترتبط ببعضها البعض وهو ما يجعل الفيلم يميل حينا إلى تكرار الفكرة إلى حدّ التخمة، أو إلى قدر كبير من الغموض الذي يثير الارتباك. فالمُشاهد يريد أو ينتظر أن يعرف أكثر عن الشخصيتين ودوافعهما وماضيهما وإلى أين يسيران وكيف ينتهي أمرهما. لكن مثل هذه التساؤلات لن يستطيع المرء أن يعثر لها على أيّ إجابات، فمخرج الفيلم يجرّب في الشكل، أي أن “أبوليلى” عمل تجريبي، يميل إلى تغليب الخيال على الواقع بل يرفض الواقعية ويتمرّد عليها، وهو طموح مشروع دون شك، لكن المشكلة أن الخيط الرئيسي يفلت منه ويجعله يظل يدور حول نفسه. وهو أحد عيوب الفيلم الرئيسية. بذل الممثلان الرئيسيان جهدا كبيرا بدنيا ونفسيا في أداء الدورين: إلياس سالم (الذي تميز كثيرا من قبل في فيلم “الوهراني”) في دور لطفي. وسليمان بوهواري في دور “س”. ويظل أهم عناصر الفيلم من خلال ذلك التصوير البديع للمناظر الخارجية في الصحراء، مع اهتمام كبير بالتكوينات الموحية التي تشي بحالة الاضطراب النفسي والجو الكابوسي العام للفيلم، مع استغلال تفاصيل المكان للمحافظة على سلاسة التدفّق في الانتقال بين اللقطات. ويعود الفضل في براعة التصوير إلى المصوّر الياباني الشهير كاناميه أونوياما. “أبو ليلى” تجربة شديدة الطموح ربما لم تحقّق ما كان منتظرا منها، لكن المأمول أن يتمكن سيدي بومدين في فيلمه القادم من إحكام السيطرة على السيناريو والتمكن من القبض بقوة أكثر على مفاصل الموضوع. فيلم طريق ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان القاهرة السينمائي يشارك فيلم “بين الجنة والأرض” للمخرجة الفلسطينية نجوى النجار، وهو فيلمها الروائي الطويل الثالث بعد “المر والرمان” (2009) و“عيون الحرامية” (2014). شأن غالبية المخرجين الفلسطينيين تعبّر نجوى في فيلمها الجديد عن “المشكلة الفلسطينية” ولا أقول القضية، فالقضية سياسية بينما المشكلة فردية وشخصية، رغم أنها ترتبط بالتأكيد بالشأن العام، أي بالقضية السياسية. كنت قد شاهدت الفيلم الأول للمخرجة وهو “المر والرمان” الذي كان يصوّر لأول مرة في عمل فلسطيني موضوعا يرتبط بالعلاقة بين المرأة وجسدها وكيف يمكنها أن تتحرّر بتحرير جسدها من القهر والكبت الموروث، والتعبير عن مشاعرها الخاصة بالرقص وإن لن تصل بالطبع إلى مستوى التعبير عن العلاقة الجنسية بوضوح بسبب طبيعة المجتمع الذي يتوجه إليه الفيلم. كان “المر والرمان” يتضمن أيضا إشارات واضحة إلى الرغبة، والتمزّق بين الواجب والذات، وبين الهم الشخصي والهم الجماعي، وكان يبرز حسا تشكيليا رفيعا في تكوين اللقطات (استخدام الألوان والكتلة والفراغ وزاوية الكاميرا وموقعها من الممثلين، إلخ.)، مع استخدام الرقص كمعادل للحرية، مع خلفية من الموسيقى الفلسطينية الحزينة بآلة العود وإيقاع الطبل. وفي الفيلم الجديد “بين الجنة والأرض” تخوض نجوى النجار تجربة أخرى في البحث عن الذات وعن الهوية الفلسطينية من خلال قصة درامية ذات أبعاد رمزية، تستخدم في صياغتها الموسيقى والأغاني الشبابية الجديدة المتمرّدة والأغاني التي تعكس الحنين، كما تهتم بالعناصر التشكيلية والبصرية، وتعيد اكتشاف البيئة الفلسطينية والأماكن الخارجية في المدينة وفي الأنحاء الفلسطينية المختلفة التي تتجوّل فيها بالكاميرا، خاصة وأن الفيلم في جانب كبير منه، يعتبر فيلما من أفلام الطريق، ينتقل بين العديد من الأماكن، على نحو يكشف للمتفرّج جمال الطبيعة الفلسطينية في الريف والمدينة بشكل ربما لم نره من قبل على كل هذا النحو من السحر والرونق والجمال. القصة تدور حول ثنائي: زوج وزوجة هما تامر وسلمى. يقيمان في الضفة الغربية لكنهما مختلفان، سلمى ترغب في الطلاق وتامر يستجيب على مضض. تامر يحمل هوية فلسطينية، أما سلمى فلديها هوية إسرائيلية لكونها تنتمي إلى عرب الداخل الفلسطيني. تامر يحصل لأول مرة على تصريح بدخول إسرائيل لتقديم طلب الطلاق أمام محكمة إسرائيلية كما تقضي القوانين. لكنه يجد نفسه مطلوبا منه الحصول على تاريخ عائلته لأنهم يقولون له أن والده تزوج من امرأة يهودية، وأنجب منها ابنا اسمه تامير وليس تامر، وهذا هو المسجل في الأوراق الرسمية. ويتعين على تامر إذن أن يثبت أنه ابن نفس الرجل. وأن يفك مشكلة زواج أبيه من امرأة يهودية، وما هو ماضي والده الذي ينتمي إلى جيل النكبة الكبرى في عام 1948. هذا المدخل يقود البطلين إلى مغامرة مرهقة لاكتشاف التاريخ الشخصي وتاريخ المنطقة وتاريخ القضية الفلسطينية نفسها، مع قصص كثيرة متشعبة متفرّقة تتناقض أحيانا مع بعضها البعض، فحكاية الأب تروى من وجهات نظر متعددة، وشخصية اليهودية التي يقال إنه تزوجها والتي نكتشف أنها يهودية عراقية شيوعية، لها أيضا أكثر من وجه. والفكرة جذابة دون شك وكان يمكن أن تصنع عملا متماسكا يتمتع بالقوة والجاذبية والبلاغة، لو اعتنت النجار أكثر بسيناريو فيلمها وتخليصه من بعض المشاهد التي لا تضيف شيئا بل تعطل تدفق الأحداث، والتخلص أيضا من الحوار الثقيل الذي يمتلئ بالخطابة المباشرة ووضع المعلومات على لسان أكثر من شخصية منها شخصية شاب فلسطيني يبحث في علاقة التراث الصوفي بالموسيقى والغناء الفلسطيني، وفلسطينية من الدروز تسكن داخل سيارة تقف عند مفترق طرق في منطقة خالية قريبة من الحدود السورية. لكنها تحمي نفسها ببندقية، وتستمتع بالموسيقى والذكريات والشعور بالحرية رغم كونها وحيدة. في الفيلم أيضا بعض المشاهد التي أدخلتها المخرجة لتحقيق هدفين: أولا، تحقيق الطابع الكوميدي للتخفيف من وطأة الحبكة وكسر رتابة النزاع بين الزوجين، ودفعهما لاكتشاف ما يجمع بينهما، والثاني تحقيق قدر من التوازن في النظرة بين “اليهودي” و“الإسرائيلي أو التفرقة” بينهما. فسلمى وتامر يقابلان رجلا وزوجته، يتضح أنهما يهوديان فرنسيان جاءا إلى إسرائيل لغرض السياحة ثم تعطلت سيارتهما، فركبا مع تامر وسلمى حيث بدا الرجل مرحا، يرحب كثيرا بوجوده في سيارة اثنين من العرب، بينما تشعر زوجته بالنفور والخوف من تلك الصحبة الغريبة. والرجل لا يكف لحظة عن المزاح والضحك بل ولا يمانع أيضا من انتقاد إسرائيل ولو بشكل خفيف، بل يصبح موضوع الطلاق عنده مادة للمزاح! جوهر الفكرة هي أن الوعي بالتاريخ والماضي هو المدخل للعثور على الهوية، وأن الحب لا يكفي دائما لكي تتم الوحدة بين طرفي العلاقة بل لا بد من إبداء المشاعر والتعبير عنها وإزالة حاجز التردّد والقلق والخوف والرتابة، وكيف أن الانتماء يتحقّق أيضا بالحب. لكن الفيلم يعاني بشكل عام من التشتّت بسبب عدم السيطرة على الحبكة وترهل الإيقاع وهبوطه في النصف الثاني منه، بسبب عدم سيطرة المونتاج على ضبط إيقاع المشاهد المصوّرة وتطويعها لخدمة الموضوع الأصلي دون التفرّع في اتجاهات كثيرة متعدّدة مع كثرة المبالغات التي قصد منها الإضحاك. بناء الفيلم بشكل عام تقليدي، وربما كان الفيلم سيصبح أكثر قوة وتأثيرا لو أن المخرجة حافظت على أسلوب يجعل ما نشاهده يبدو كما لو كان يحدث بين الحلم والواقع، وبين الماضي والحاضر بشكل أعمق. صحيح أنها تنتقل بين مشاهد وقعت في الماضي تتداعى بين وقت وآخر في ذهن تامر، أكثر من سلمى، لكن هذه التداعيات بدت سطحية ومعلوماتية كأنها تترجم لنا ما يرويه تامر بالصورة. مستوى التمثيل جيد بشكل عام. مع تميز خاص للممثلة منى حوا في دور سلمى، والممثل فراس نصار في دور تامر. ولعبت موسيقى تامر كروان دورا كبيرا في إضفاء لمسات شديدة الجاذبية على الفيلم وطعمته بفيض من المشاعر.

مشاركة :