لا يكفي إيقاف الحروب، بل الأهم هو منع وقوعها

  • 11/27/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الحروب تنشأ في العقول بداية، والسلام لا ينشأ إلا في العقول أولاً   تضمن عنوان هذا المقال عبارتين: الأولى تنسب إلى جوزيف غوبلز وزير الإعلام الألمانيّ في الحقبة النازية، وهي: «كلّما سمعتُ عبارة (مثقف) تحسّستُ مسدّسي». أما العبارة الثانية فهي للسفيرة المغربية السيدة زهور العلوي، رئيسة المؤتمر العام 39 لمنظمة اليونسكو، وردت في خطابها الوداعي خلال تسليمها رئاسة المؤتمر العام الأربعين مؤخرًا للرئيس الجديد، وهي قولها: «ليس يكفي إيقاف الحروب فحسب، بل الأهم من ذلك هو منع وقوعها». وبين العبارتين تعالق يصور البون الشاسع بين المرحلتين: مرحلة الحرب العالمية الثانية وأهوالها التي فتكت بأكثر من 50 مليون من بني البشر، وبين مرحلة الخوف من اندلاع حروب عالمية جديدة تهدد البشر وتفتك بهم، بأدواتها الأكثر فتكًا من الحروب السابقة. فكلام غوبلز يشير إلى أهمية الثقافة التي يفوق تأثيرها تأثير الأسلحة، لأنها تتعلق ببناء العقول والنفوس المتحكمة في السلوك الإنساني. وكلام السفيرة المغربية باليونسكو السيدة زهو العلوي يشير الى أهمية التربية وخطورتها في تشكيل العقول والسلوك. والجامع بين القولين هو أن الحروب، كما السلام يصنعان في العقول وفي الفكر وفي النفوس أولاً. ولذلك فالرهان الأساسي هو على الثقافة وعلى التربية معًا، لمنع وقوع الحروب من الأساس. ولذلك فإذا أردنا منع وقوع هذه الحروب (سواء أكانت عالمية أو جهوية-قومية أو دينية أو طائفية...) وجب أن نمنع وقوعها في عقول الناشئة بداية. بحيث يمكن التأسيس لمفاهيم السلام الحقيقي والتعايش بين الشعوب والأديان والمذاهب. وهو الشرط الرئيسي للسلام في بعده الأعمق، وضمن شرطه الإنساني، حيث إن الحروب – مثلما جاء في ديباجة الميثاق التأسيسي لليونسكو «تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»، حيث تعبر جميع الدول عن التزامها بتأمين إمكانية التعليم لجميع فئات المجتمع بشكل متساوٍ دون تفرقة أو تمييز، مع توفير حرية البحث عن الحقيقة وتبادل الأفكار والمعلومات.. هذا أول طريق السلام والتعايش. فالحروب تنشأ في العقول، من خلال غسل الأدمغة والتحريض واستحضار تاريخ الأوهام والأسوار الفاصلة وأنواع الشوفينيات. ففي الأفكار الطاحنة المليئة بالمشاحنات يتربى وينشأ الملايين من الأطفال والشباب في مختلف أرجاء العالم على الأوهام، واستحضار ذاكرات الحروب والصراعات، من دون التوقف للحظة واحدة للبحث عن المخرج من المأزق، ومن دون الانتباه إلى ان هنالك دوما حلولا من خارج منطق «نحن أو أنتم»، وبعيدًا عن منطق الحرب الشاملة الطاحنة. كما أن السلام لا ينشأ، إلا إذا نشأ في العقول والوجدان أولاً. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال التربية والثقافة معًا، لأن العداء موجود والعوامل التاريخية ومقومات هذا الصراع وإمكانيات استحضاره موجودة، ولذلك فلا أمل في تفكيك هذه العقد إلا من خلال التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وحري بالمثقفين والإعلاميين، ممن يؤمنون بأن قدر الإنسانية أن تتعاون وأن تتعايش مع خلافاتها واختلافاتها، أن يواجهوا هذا الاتجاه المدمر والذي يعمل على تأجيج الكراهية بين الشعوب والأديان والثقافات، وهو الاتجاه الآخذ في الانتشار. إلا أنه لا بد أيضًا من الحد من اتساع المسافة بين الشعوب والأديان والمذاهب، لأن اتساع هذه الشقة يمهد لحروب لا تنتهي إلا بهلاك الأرض والحرث والنسل.  فالذين زرعوا الانقسامات وغذوها ورعوا نموها لتنهض في النفوس والعقول يجلسون اليوم على الربوة، فيما يحترق العالم بنارها في الساحات والمدارس والجامعات والشوارع، فالانقسامات التي يريدونها تعيد إلى الأذهان احتمالات إعادة إنتاج الحروب تحت شعارات تكرس الانقسام الاثني – والديني والطائفي. وبدلاً من تعزيز وحدة الشعوب والأوطان، يتم التشجيع على تفكيك العالم وإنشاء المزيد من دول الطوائف العرقية والمذهبية والمحاصصة، تدخل العالم في دوامة من العنف والفوضى المولّدة للمزيد من الأحقاد. صحيح أن العنف ليس ظاهرة جديدة ولدتها العولمة، مثلما يزعم البعض، وإنما يعود تاريخه إلى العهود القديمة، حيث شهدت البشرية أصنافًا لا تحصى من مظاهر القسوة والبربرية والعنف التي سببت سلسلة من الكوارث المأساوية المتعاقبة، وحتى داخل المجتمعات الغنية، فإن هنالك نوعًا من العنف البنيوي الذي اعتادت عليه هذه المجتمعات والقائم على التفاوت الاجتماعي المذل وعلى التمييز المهين والإفقار المنظم والتهميش لقطاعات واسعة من هذه المجتمعات، خاصة الفقراء والمعدمين. ولذلك فحتى القوانين المحلية أو الدولية الهادفة إلى ترويض الناس أفرادًا وجماعاتٍ للحد من العنف فإنها لا تكاد تلعب سوى دور ثانوي، حيث إن منطق القوة هو الذي يهيمن في النهاية والتحالفات والمصالح السياسية هي الفيصل وليس القيم الأخلاقية والسياسية والقانونية.  ويظل الجانب المتعلق بالدور المفترض للعلاقات الثقافية بين الدول والشعوب في الحد من موجات الكراهية المولدة للحروب وللعنف بكافة أشكاله. إلا أنها تظل محدودة الدور، فعند أول مواجهة أو خلاف سياسي أو عسكري، تتمترس الثقافة هي الأخرى لتتحول إلى أداة من أدوات الحرب، وإذا لم تتم السيطرة على النزعة الرأسمالية الهمجية والمتوحشة في طمعها وعنفها، فسيكون من المستحيل التمكن من وقف المشاكل المولدة للحروب والمآسي. وإذا ما أريد للعنف أن يتراجع، لا بد من الحد من النتائج الأكثر تدميرًا للإنسان، والأكثر إذلالاً لإنسانيته على صعيد العالم، والحد من الإذلال والإفقار الذي تغرق فيهما مناطق وقارات بأكملها بسبب الفوارق المجحفة بين الدول والشعوب. وقد نكون أيضًا في حاجة ماسة إلى تعزيز دور الأطر المؤسساتية على الأصعدة الإقليمية والدولية وإنشاء المزيد منها لمواكبة أشكال الوفاق الدولي وتعزيز اللقاءات الدولية من أجل السلام، بما قد يسهم في بلورة توجه سلمي عالمي يعزز التوافق في مواجهة سياسات التوحش التي انتهجتها رسميًا العديد من الدول الكبرى..   درجة فوق همس إن الكلمات التي ترتاد الطريق وتقود إلى التقدم والسلام والتعايش لا تكون حاقدة ولا متسخة ولا وقحة، الكلمات الصادقة النظيفة تقول كل شيء بإيمان مجرد من الهوى، وتكون بالضرورة مع الحرية والعدل والمساواة دون أن تنزلق في المتاهات المفضية إلى الحروب الدائمة.

مشاركة :