ضمن برنامجه السنوي للتعريف بالرواية الأجنبية، نظّم بيت الرواية التونسي منتصف شهر نوفمبر من هذا العام ندوة خاصة بالرواية الإيطالية التي بدأت تجد قراء كثيرين في العالم العربي، بعد أن قامت دار “كلمة” الإماراتية بنقل 450 عملا إيطاليا إلى لغة الضاد. وقد حضر الندوة كاتبان إيطاليان بارزان هما جوزييه كاتوتسيلا، وفرانشيسكا بيلينو صاحبة رواية “على قرن الكركدن” التي تصوّر فيها العلاقة بين فتاة تونسية من مدينة القيروان المحافظة، وفتاة إيطالية في بداية القرن العشرين، أي في الفترة التي كانت فيها الجالية الإيطالية تتمتع بنفوذ قوي في البلاد التونسية. التأثر بالأميركيين حضر الندوة مترجمون ونقاد وأساتذة جامعيون مختصون في الأدب الإيطالي، مثل أحمد الصمعي الذي نقل إلى اللغة العربية رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو. وعلينا أن نشير إلى أن الرواية الإيطالية شرعت في الانتشار عالميا خلال النصف الأول من القرن العشرين. ثم ازداد هذا الانتشار توسعا في النصف الثاني من القرن المذكور، حيث برزت أسماء لامعة في مجال الرواية مثل كارلو إميليو غادا، وإيتاليو كالفينو، وألبرتو مورافيا، وسيزار بافازي، وغيرهم… ولعل إيتاليو كالفينو هو واحد من أفضل من عرّف بالتوجهات الأساسية في الرواية الإيطالية المعاصرة من خلال المحاضرة التي ألقاها في جامعة “كولومبيا” بنيويورك في السادس عشر من شهر ديسمبر 1959، والتي أعاد إلقاءها في السنة التالية، أي في سنة 1960، في جامعة هارفارد، وجامعة يال، وجامعة نيو هايفن، وجامعة لوس أنجلس. وفي بداية محاضرته، أشار كالفينو إلى أن الرواية الإيطالية المعاصرة نشأت وتطورت في غياب المدارس الأدبية والنقدية خلافا للجارة الغربية فرنسا التي كانت فيها مثل هذه المدارس تتعدد، وتنازع في ما بينها لتفرض كل واحدة منها وجودها. وبين أنه في النصف الأول من القرن العشرين، تأثر كتّاب الرواية بالأدب الأميركي المتمثل بالخصوص في كل من هرمان ملفيل، هاوثورن، ولت ويتمان، مارك توين، شاروود أندرسون، همنغواي، وفوكنر. وكان سيزار بافازي الذي انتسب إلى الحزب الشيوعي، ثم انفصل عنه قبل انتحاره عام1950، أبرز المتأثرين بالأدب الأميركي، إذ أن هذا الأدب كان في رأيه مرتبطا ارتباطا وثيقا بالواقع وبالحياة. وغالبا ما يكون أبطال الرواية الأميركية صيّادي أسماك مثلما هو الحال في “موبي ديك” لهرمان ملفيل، “الشيخ والبحر” لهمنغواي، أو مزارعين فقراء مثلما هو الحال في “عناقيد الغضب” لجون شتاينباك، و”طريق التبغ” لأرسكين كالدويل، أو زنوجا مضطهدين وملعونين مثلما هو الحال في جل روايات الكتاب السود. أما الآخر الذي تأثر بالأدب الأميريكي فهو إيليو فيتيرينو. لذلك اختار الاثنان أن يكون أبطال رواياتهما أناسا بسطاء يعيشون أزمات الطبقات المتوسطة والفقيرة، ويعانون من شقائها وعذاباتها. ويقول كالفينو، إن جيل الروائيين الذي برز في ظل الفاشية مثل بافازي وفيتيرينو عاش الحياة وكأنها تراجيديا يومية. وهذا ما نعاينه في جل الأعمال الروائية في تلك الفترة. وإلى جانب تأثرهم بالأدب الأميركي، تأثر كتّاب هذا الجيل بالشاعرين الإيطالي الكبير أوجينيو مونطالي، وبعالمه الخالي من الأوهام، والذي يبدو بحسب رأي كالفينو “باردا، منغلقا على نفسه، وصعبا، ومن دون أي ركيزة أو مرجعية تاريخية”. كما تأثروا بقصائد أونغراتي العاكسة لمناخات الإسكندرية حيث ولد الشاعر. ومن هذين الشاعرين تعلموا التكثيف، والتركيز على ما هو جوهري وأساسي في الواقع، وفي الحياة. ما بعد الحرب بعد الحرب الكونية الثانية، تمكن كتّاب جدد من أن يحتلوا مكانة بارزة في الرواية الإيطالية والعالمية. وأول هؤلاء هو كارلو كاسولا صاحب رواية “الأغصان المقطوعة” وفيها يروي قصة تاجر فحم ينطلق إلى الغابة برفقة البعض من أصدقائه ليدوّن يومياته التي لا تعكس العالم الخارجي فقط، بل عالمه الداخلي، وأحاسيسه التي لا يبوح بها لأيّ أحد. ويقول كالفينو، إن عالم كاسولا هو عالم الحرفيين الذين ينتسبون إلى البورجوازية الصغيرة. لذا هو عالم “بسيط، بعواطف وبأفكار بسيطة، وبجمل بسيطة تنتصر فيها اللهجة المحلية الخاصة بمنطقة توسكانا”. الرواية الإيطالية المعاصرة تأثرت بالأدب الأميركي ونشأت وتطورت في غياب المدارس الأدبية والنقدية خلافا للجارة الغربية فرنسا وأما الثاني فهو جيورجيو باسّاني الذي رسم صورة مرعبة لعذابات اليهود الإيطاليين خلال الحقبة الفاشية. ولا يختلف كارلو ليفي الذي عاش تجربة المعسكرات النازية خلال الحرب الكونية الثانية عن كاسولا، وباسامي. فقد كان له هو أيضا تأثير كبير على الأدب الإيطالي في الحقبة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية مثل سكوتيلارو، الذي توفي وهو في سن الثلاثين. مع ذلك تمكّن من أن يترك أعمالا مهمة شعرية ونثرية. ويرى كالفينو أنه ليس بالإمكان تصنيف توماسي دي لامبيدوزا صاحب رواية “الفهد” الشهيرة. ففي روايته هذه التي يروي فيها جانبا مهما من الصراعات الطبقية في جزيرة صقلية خلال القرن التاسع عشر، هو من استخدم أساليب فنية وأسلوبية ولغوية لم تكن مألوفة لدى كتّاب عصره، بل إن هؤلاء كانوا يعتقدون أنها أساليب قديمة عفا عليها الزمن. غير أن دي لامبيدوزا تمكّن من أن يعيد إليها القوة والنضارة. وفي محاضرته، تحدّث كالفينو أيضا عن روائي كبير آخر، أعني كارلو إيميليو غادا الذي يرى البعض من النقاد أنه تأثر في جل أعماله بجيمس جويس. إلا أن كالفينو يرى أنه قريب إلى حد كبير من الفرنسي رابليه، حيث تتعدد لديه الأساليب اللغوية لتأتي رواياته شبيهة بـ”قدر تغلي على نار حامية”.
مشاركة :