ما زالت الولايات المتحدة تذهل العالم بقفزاتها المتتالية بإنتاج النفط والغاز الصخري، ويبدو أنها تكتب تاريخا جديدا للطاقة. لقد غيرت أمريكا الكثير من المفاهيم والاستراتيجيات المعدة منذ سنوات قليلة، بسبب قدرتها الهائلة والمتنامية على إقحام وبقوة مصدر جديد في خريطة الطاقة العالمية. لقد أدمنت أمريكا النفط، فهي لن تستطيع أن تعيش من دونه، ولذلك ورغم أن عدد سكانها أقل من ربع سكان الصين أو الهند، إلا أنها تعد أكبر مستهلك للنفط والغاز الطبيعي في العالم، فهي تستهلك يومياً نحو 19 مليون برميل من النفط الخام، وتأتى بعدها الصين بفرق شاسع بنحو 10.2 مليون برميل، ثم اليابان بخمسة ملايين برميل، فالهند بنحو 3.5 مليون برميل، ثم روسيا والسعودية بنحو 3 ملايين برميل لكل دولة، وهذا يعكس أهمية أمريكا في تحديد الطلب العالمي على النفط. أما من ناحية الغاز الطبيعي، فقد استهلكت أمريكا في عام 2012 نحو 722 مليار متر مكعب، بينما حلت روسيا ثانياً وبفارق كبير، إذ استهلكت ولنفس الفترة 416 مليار متر مكعب فقط. وكل هذا يعطي دلالة واضحة على موقع أمريكا على خريطة النفط والغاز الطبيعي العالمي. ولكن ومنذ 2005 بدأ الاستهلاك الأمريكي للنفط ينخفض تدريجيا. حيث استهلكت أمريكا في ذلك العام 20.8 مليون برميل يومياً وبدأ الاستهلاك في الانخفاض ليصل إلى 18.55 مليون برميل في عام 2012. وفى الوقت نفسه لوحظ زيادة إنتاج أمريكا من النفط، ففي عام 2005 أنتجت خمسة ملايين برميل يومياً، واستمر الإنتاج في الزيادة ليصل إلى نحو 7.5 مليون برميل يومياً بنهاية تموز (يوليو) للعام الحالي بفضل طفرة الزيت الصخري (الشكل 1). وأظهرت التقارير الصادرة عن وكالة معلومات الطاقة الأمريكية أن إنتاج أمريكا للنفط سوف يزيد مليون برميل إضافيا بحلول 2014 ليصل إلى 8.5 مليون برميل يومياً في عام 2014. إن النمو في إنتاج أمريكا للنفط مهم جداً ويجب أن يؤخذ على محمل الجد. ولقد مكنت التقنيات الحديثة أمريكا من البدء في تصدير الغاز المسال للعالم، وهاهم يعملون بجد من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من النفط، والأهم من ذلك أن زيادة إنتاج أمريكا للنفط سيغنيها تدريجياً عن استيراده من الخارج. ولقد استوردت أمريكا في كانون الثاني (يناير) عام 2011 نحو 9.5 مليون برميل يومياً من النفط الخام. وانخفضت هذه الكمية مطلع العام الجاري إلى نحو سبعة ملايين برميل يومياً. وتتوقع وكالة معلومات الطاقة الأمريكية أن تنخفض هذه الكميات إلى ستة ملايين برميل مطلع 2014، ثم تنخفض في بداية عام 2015 لتصل إلى خمسة ملايين برميل يومياً. بينما سوف يرتفع استيراد الصين لنفس المدة من عام 2014 ليصل إلى 6.5 مليون برميل، وفي كانون الثاني (يناير) 2015 يتوقع أن يصل استيراد الصين إلى سبعة ملايين برميل يومياً. وبذلك من المتوقع أن تصبح الصين في نهاية العام الحالي أو في العام المقبل أكبر مستورد للنفط في العالم بدل الولايات المتحدة. وتعد كندا أكبر مورد للنفط لأمريكا، إذ إنها تصدر لها نحو 2.5 مليون برميل يومياً، وتأتي بعدها السعودية بنحو 1.4 مليون برميل يومياً، ويأتي معظم الباقي من المكسيك وكولومبيا وفنزويلا والكويت والعراق. ولا شك أن الزيت الصخري والتقنيات الخاصة به قد غيرت الكثير من الثوابت في عالم الطاقة. ولا سيما أن كثيراً من الدراسات تشير إلى أن كمية الزيت الصخري المستخرج عالمياً قد تصل إلى نحو 14 مليون برميل يومياً بحلول 2035. وهو ما يشكل 12 في المائة من الإنتاج العالمي للنفط. وهذا سيسهم في تحديد أسعار النفط المستقبلية بحسب وكالة معلومات الطاقة الأمريكية. إذ إن الوكالة وضعت احتمالين أولهما إذا لم يكن إنتاج الزيت الصخري مهماً، أي أنه لا يتعدى بضعة ملايين، وفي هذه الحالة سيرتفع سعر برميل النفط إلى حدود 130-135 دولارا. أما الاحتمال الآخر إذا ارتفع إنتاج الزيت الصخري إلى حدود 10-15 في المائة من الإنتاج الكلي، وفي هذه الحالة ستبقى أسعار النفط في حدود 85-100 دولار للبرميل، وبذلك يصبح الزيت الصخري ومدى التوسع في إنتاجه هو من سيحدد أسعار النفط المستقبلية، وقد يتسبب في انخفاض أسعار النفط بشكل عام بنحو 30 في المائة. وتبلغ الاحتياطيات الأمريكية من الزيت الصخري بحدود 45-55 مليار برميل، أما بالنسبة لإنتاج أمريكا من النفط غير التقليدي فقد اختلفت التوقعات والتكهنات. فعلى سبيل المثال توقع الباحثون من جامعة هارفارد أن يرتفع إنتاج أمريكا من النفط غير التقليدي من 1.5 مليون برميل يومياً بنهاية 2012 إلى خمسة ملايين برميل يومياً بحلول 2017. أما بنك باركليز ووكالة معلومات الطاقة الأمريكية فكانت توقعاتهم أقل من هارفارد. وبشكل عام تتوقع كثير من الدراسات أن يبلغ إنتاج أمريكا من الزيت غير التقليدي نحو ثلاثة ملايين برميل في 2030، وهى حاليا تنتج منه أكثر من مليون برميل يومياً. وهذا يعنى أن هذا الاحتياطي سيكفيها لنحو 30 سنة على الأكثر. أما بالنسبة للغاز الطبيعي فلقد وصلت أمريكا رسمياً إلى الاكتفاء الذاتي منه، وزاد إنتاجها حتى وصل إلى مرحلة التخمة فانهارت أسعاره وتضررت الشركات المنتجة له. فلجأت هذه الشركات إلى تصدير الغاز المسال خارج أمريكا بغية تحقيق بعض المكاسب. ولقد سمحت الحكومة الأمريكية إلى الآن لأربع شركات بتصدير الغاز المسال إلى أوروبا وشرق آسيا وغالباً ما سيبدأ التصدير في عام 2015. ويعرض الجدول أدناه قائمة أسماء الشركات والكمية المسموح بتصديرها. أي أن أمريكا مرشحة لتكون لاعبا رئيسا في تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية. لا شك أن أمريكا قوة مؤثرة في عالم الطاقة، وها هي الآن توقع عقود تصدير الغاز، ومن يدري هل ستصدر يوماً النفط؟ قد لا تستطيع تصدير النفط، لأنها تستهلك نحو 19 مليون برميل يومياً، وسوف تنتج بحسب أعلى احتمال نحو 10-11 مليون برميل ما بين 2025-2030. لكن الأكيد مع ارتفاع إنتاجها من النفط والغاز الصخري والوقود الحيوي سوف تستطيع خفض اعتمادها على استيراد النفط من الخارج، ولا سيما وهي تستهلك حالياً نحو 21 في المائة من الإنتاج العالمي للنفط. وهذا ما يجعل التنبؤ بأسعار النفط المستقبلية عملية غاية في التعقيد، لأن المستهلك الأكبر يمر بمرحلة معقدة من التوسع في الإنتاج غير التقليدي وانخفاض الاستهلاك المحلي. يبدو أن الصين في طريقها لتعويض الكميات التي كانت أمريكا تستهلكها من نفط "أوبك"، ولكن يبقى السؤال ماذا لو تمكنت الصين أو روسيا من تتبع خطوات أمريكا باستغلال النفط والغاز الصخري، ولا سيما وهم يمتلكون أكبر احتياطي للنفط والغاز الصخري في العالم. الأكيد أننا نشهد ميلاد عهد جديد فيما يخص الطاقة المستخرجة من الصخور، ولا شك أن المملكة معنية مباشرة بتطورات الوضع الأمريكي من حيث الإنتاج والاستهلاك، ولا سيما أن المملكة ثاني أكبر مصدر للنفط لأمريكا.
مشاركة :