في المقال السابق ذكرنا أن القصص القرآني ليس سردا تاريخيا لحوادث الماضي، فهذه مهمة واختصاص المؤرخين، إنما القصص القرآني سُرد بعناية لتفسير التاريخ وتقعيد القواعد، لأهداف نبيلة، تؤسس لحياة فُضلى، لذا احتل هذا الجانب -الطغيان السياسي- مساحة كبيرة من القرآن أكثر مما احتلته العبادات والشعائر كالصلاة والوضوء ونواقضه، مما يدل على أهمية هذا الجانب وخطورته، ودعوة واضحة وصريحة لقراءته القراءة التي تليق به كموضوع يمس صميم حياة الناس، وعدم إفراغ الجُهد بالثانوي من جوانب القصة، اقتداءً بالنهج القرآني الذي لم يأت على ذكر الاسماء، فاكتفى بالتركيز على الظواهر التي تُجسد معاناة الناس على مر العصور. «لقد كان في قصصهم عِبرة لأُولي الألباب ما كان حديثًا يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمةً لقوم يؤمنون» هذه آية تُصادق على ما ذكرناه آنفًا من أن القصص للعبرة، تخلو من العبادات ومحلها استنباط القوانين الناظمة للكون، والقوانين إما مُغلقة وهي قليلة للغاية في الكتاب الكريم، وإما قوانين مفتوحة للاعتبار والتأسي والبناء على هديها، فمن القوانين المُغلقة قانون الزمن المُتكفل بإهلاك كل الحضارات، أما كل القصص القرآني التي تناولت كل أشكال الطغيان تُشكل قوانين مفتوحة، ضمن دائرة التكليف الإنساني ومحل التصرف والحركة. «ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون». في الآيتين السابقتين من سورة القصص «5 و6» أمور يُستحسن الوقوف عندها لتوضيح الأمور، فالوقوف على معنى «فرعون» لازمة لما بعدها فهي كلمة أصلها «فرع» وتعني العلو والارتفاع والسمو، وهذا المعنى منطبق تمامًا على الظاهرة الفرعونية التي تشغل أعلى منصب بحسب النصوص الشريفة، وأما هامان فمن الفعل «همن» أي الحفظ والرقابة، فهامان كان الحافظ للأوامر الإلهية والرقيب عليها بين الناس، وعليه فإن الحاكم السياسي على النمط الفرعوني يحتاج إلى هامان ليُضفي عليه الشرعية، ويوجه بترسيخ هذه القناعة بين الناس حتى تصل لمستوى الثقافة الشعبية. التحالف السياسي والديني على مر العصور لا يخرج من عباءة هذه النظرية القرآنية والاختلاف فقط محصور بالشكل لا بالجوهر، ونتائج هذا التحالف الكارثية أيضًا واحدة في مضمونها وإن اختلفت بشكلها والآليات المتبعة في تحقيق أهداف ذلك الحلف البغيض، ولا يخفى على احد أن الهامانات هامانات كل عصر لا تُقدم ذلك إلا بمقابل مكاسب شخصية. والضلع الثالث من مثلث الطغيان يتمثل بقارون كظاهرة لم تختفِ في أي مرحلة تاريخية، وقارون من حيث المعنى جاءت من «قرن» أي جمع، وهذه مهمة الاقتصادي بالدرجة الأُولى، «... وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أُولي...» وقارون ظاهرة عابرة للزمان والمكان فهي لا منتمية، فقارون من قوم موسى لكن الله عدّه مع فرعون وهامان حيث مصلحته «إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم...»، وقوله تعالى «وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات...» فهو يجمع المال بموافقة فرعونية «سياسية» ومباركة هامانية «دينية» بمقابل حرمان لكثير من الخلق، الذين وصفهم الله بـ«المستضعفين في الأرض» والمستضعفون هؤلاء هم خير شاهد ودليل على التحالف الكريه بين السياسي والديني والاقتصادي، وإذا ما نظرنا حولنا في هذا العصر نجد ان الواقع يصدق ذلك، وهذه أحد أهم سمات القرآن الكريم بأن الحياة هي التي تصادق على قوانينه. ودمغ الله هذا التحالف بقوله وقوله الحق «... فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين» صفتهم مجاوزة الحد في الظلم، فلا حدود تحد قناعاتهم السلطوية والمادية، وأنى لهذا أن يحدث من دون طغيان، يأتي على الأخضر واليابس، كما نقول بالمثل الدارج، ونهاية الآية قانون خاص بأن هذا الطغيان لم يبدأ بفرعون ولم تنتهِ بموت فرعون «... وما كانوا سابقين» ليسوا أصحاب سابقة كالذي فعله قوم لوط. ادعاء الربوبية أول الصفات التي يتصف بها الفرعون، كانعكاس للمنطق الذي يتكئ عليه في الحُكم، «... أنا ربكم الأعلى» وقوله تعالى «يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون» بهذا الوصف يتداخل الفكري بالسياسي، فما نطق ما نطق به إلا بالاستناد لفكرة، «وتمكنت منه بأن رزق الناس عليه وهو الذي يُطعم ويسقي ويرزق، ولا يكتفي بذلك بل ذهب لادعاء الألوهية» «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري...» تلك أفظع الصفات التي اتصف بها فرعون ومن نهج نهجه حتى اليوم وإلى قيام الساعة، علاوة على صفات أخرى، فهو لا يكف عن انتهاج صفة التفريق بين الناس لضمان حكمه واستمرار، «إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا...» وكذلك اعتماده على الملأ الذين هم البطانة التي تروج له مزاعمه «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري» هذا الأمر الفرعوني وما على الملأ إلا ترسيخ هذه القناعة لدى الناس، والإفساد في الأرض من صفات الفراعنة «وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد». ولأن هذا الموضوع ذو أهمية أفرد له الله مساحة كبيرة حيث ذُكر فرعون بما يمثله من سلطة «74» مرة ، فإن مقالا واحدا لا يفي الموضوع حقه، لذلك يكون المقال التالي هو لاستكمال جوانب الموضوع، والذي نشاهد تطبيقاته في عصرنا الراهن بشكل جلي وواضح، وكتب التاريخ بعد فرعون لا تخلو من نماذج تكاد تتطابق مع ما ذكره الله بحق هذه الظاهرة.
مشاركة :