فرضت الاتفاقية العسكرية والأمنية التي وقعها رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سياقات جديدة للملف الليبي، وسط غضب شعبي ورسمي من اتفاقية تتيح لأنقرة اختراق أجواء ليبيا وأراضيها ومياهها الإقليمية دون إذن. وأعلنت الرئاسة التركية، الخميس، أن حكومة الوفاق وقعت اتفاقا عسكريا جديدا مع تركيا الداعمة الرئيسية لها في نزاعها مع الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر. وقالت الرئاسة التركية إن اتفاق “التعاون العسكري والأمني” تم توقيعه، مساء الثلاثاء، خلال لقاء في إسطنبول بين الرئيس أردوغان ورئيس حكومة الوفاق فائز السراج. وأوضح مدير الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألتون أن النص الجديد هو “نسخة أوسع من الاتفاق الإطار للتعاون العسكري المبرم” بين البلدين. وأكد أن الاتفاق الجديد “سيعزز العلاقات بين جيشينا”، مشيرا إلى أن “استقرار ليبيا يرتدي أهمية كبرى لأمن الليبيين ولمكافحة الإرهاب الدولي”. وأعلن المكتب الإعلامي للسراج في ساعة متأخرة من مساء الأربعاء، أن فائز السراج التقى الرئيس التركي في أنقرة، للتوقيع على مذكرتي تفاهم إحداهما حول التعاون الأمني، والثانية مذكرة تفاهم في المجال البحري. وأثار الغموض الذي يحيط بالاتفاقية، وبنودها التي لا تزال سرية، مخاوف من أن تعبّد هذه الاتفاقية الطريق أمام التدخل العسكري التركي العلني لحماية الميليشيات المسلحة في طرابلس، وذلك بعد تزايد الضغوط الدولية على أنقرة لوقف تزويد تلك الميليشيات بالأسلحة والطائرات المسيرة لغياب أي مسوغ قانوني يبيح لها ذلك. وأكد أردوغان في يونيو الماضي أن تركيا تزود حكومة الوفاق بأسلحة، معتبرا أن تلك المعدات العسكرية سمحت لطرابلس “بإعادة التوازن” في مواجهة الجيش الليبي. وحذرت مصادر سياسية وشعبية ليبية من أن هذه الاتفاقية تشرّع لتقسيم ليبيا ورهن جزء من أراضيها إلى تركيا التي لا تتوقف عن التورط عسكريا في أكثر من جبهة. واعتبر مجلس النواب الليبي في بيان له أن الاتفاقية تهدف إلى تزويد الميليشيات الإرهابية بالسلاح، و”تسمح للجانب التركي باستخدام الأجواء الليبية ودخول المياه الإقليمية دون إذن، وهو ما يمثل تهديدا حقيقيا وانتهاكا صارخا للأمن والسيادة الليبية”. وحذر المجلس من أن “الاتفاقية تمثل تهديدا تركيا للأمن العربي وللأمن والسلم في البحر المتوسط، وهي خطوة ترقى إلى تهمة الخيانة العظمى”. ولم تكشف حكومة الوفاق الليبية، ومعها النظام التركي عن تفاصيل مُذكرتي التفاهم وبنودهما، حيث التزم الجانبان الصمت حول أبعادهما، وذلك في الوقت الذي يؤكد فيه الفرقاء الليبيون أن ما تم توقيعه في إسطنبول هو اتفاقية تتعلق بـ”الدفاع المشترك” ستكون لها تأثيرات مباشرة في رسم ملامح المرحلة المقبلة. ولم تُبدد تصريحات محمد سيالة، وزير خارجية حكومة الوفاق، المخاوف التي أثارتها هذه الاتفاقية لدى جميع الفرقاء الليبيين، وكذلك دول الجوار التي تخشى أن تكون في دائرة الأجندات التركية التوسعية المشبوهة. وزعم سيالة في تصريحاته التي بثتها، مساء الأربعاء، قناة ليبيا الأحرار، التي تبث من تركيا، أن مذكرة التفاهم مع تركيا في المجال البحري “ستساهم في حماية السيادة الليبية في ما يتعلق بالمناطق البحرية للدولتين المتقابلتين على البحر المتوسط”. وامتنع في المقابل، عن التطرق إلى التعاون الأمني والعسكري مع تركيا التي نصت عليه، مذكرة التفاهم الثانية، وذلك في الوقت الذي ارتفع فيه غضب الفرقاء الليبيين في شرق البلاد، الذين اعتبروا أن ما أقدم عليه السراج وفريقه الحكومي، هو “خيانة موصوفة للوطن”. وقال طلال الميهوب، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب (البرلمان)، الليبي، في اتصال هاتفي مع “العرب” من مدينة بنغازي بشرق ليبيا، إن ما قام به فائز السراج “خيانة لا تُغتفر، ولا يمكن فصلها عن سياق ممارسات حكومة السراج التي تحولت إلى رهينة لدى ميليشيات مُسلحة تسعى إلى ترسيخ أجندات النظام التركي الخفية منها والمُعلنة”. واعتبر أن السراج بتوقيعه على مذكرتي التفاهم المذكورتين يكون قد “أقدم على بيع ليبيا للأتراك، وتهديد الأمن القومي الليبي بشكل خاص، والأمن القومي العربي، والأمن والسلم في البحر المتوسط بشكل عام”. لكنه استدرك قائلا “الاتفاقية تبقى مع ذلك لا تُساوي الحبر الذي كُتبت به، لأن الليبيين لن يعترفوا بها، وسيتصدون إلى تبعاتها، ولكل أدوات المشروع التركي التخريبي“. وقبل ذلك، رفضت الحكومة الليبية المؤقتة، برئاسة عبدالله الثني، ما أقدم عليه السراج، واعتبرت في بيان لها أن ذلك “سيُحقق المطامع الاستعمارية لرجب طيب أردوغان في ليبيا”. ووصفت في بيانها مذكرات التفاهم المُوقعة بأنها “غير شرعية لكونها مبرمة من غير ذي صفة بموجب أحكام القانون والمحاكم الليبية”، مُتهمة في الوقت نفسه السراج بأنه “يسعى لتحقيق مآرب الرئيس التركي أردوغان الاستعمارية وإعانته على تحقيق حلمه في إقامة امبراطورية عثمانية ثانية من خلال الحصول لها على موطئ قدم في ليبيا”. وتوقعت مصادر سياسية ليبية أن تطرأ خلال الأسابيع القادمة، تغيرات على المواقف الإقليمية والدولية تجاه ليبيا، بعد توقيع الاتفاقية مع تركيا التي من شأنها تغيير موازين القوى في المنطقة. ويبدو أن الاهتمام بالاتفاقية بأبعادها العسكرية والأمنية والسياسية، سيتواصل خلال الأيام القادمة، بالنظر إلى مخاطرها التي لا تُهدد ليبيا فحسب، وإنما أيضا أمن دول الجوار الليبي التي لا تُخفي خشيتها من الأجندات المشبوهة للنظام التركي.
مشاركة :