تسترعي الاحتجاجات الأخيرة التي امتدت من الشرق الأوسط وشملت لبنان والعراق وصولا إلى دول أميركا اللاتينية الانتباه لتكشف عن تعمق الفجوة بين الأنظمة التقليدية القائمة منذ عقود وشعوب هذه الدول. ففي كولومبيا كما في التشيلي وبوليفيا يتكرر مشهد السخط الشعبي الرافض لإجراءات مجحفة في دول تغلغلت فيها الأنظمة اليسارية لكنها بدأت منذ السنوات الأخيرة تنهار. ويتبين ذلك بوضوح منذ سقوط اليسار في البرازيل بزعامة ديلما روسيف ورفيقها لولا داسيلفا، والذي لم يكن سقوطا عاديا بالنظر إلى التفاؤل الذي ساد شريحة هامة من الشعب البرازيلي ترجمه بانتخاب اليمين المتطرف الذي يقوده الرئيس الحالي جائير بولسونارو. نفس المشهد الذي عاشته البرازيل يتكرر في العديد من الدول الأميركية، ويتسم أساسا باتهام زعماء هذه الدول بالفساد والحنين إلى ممارسات دكتاتورية تظهر من خلال محاولات الانفراد بالحكم. وكانت الاحتجاجات التي ضربت بوليفيا مؤخرا قد انتهت بفرار الرئيس اليساري إيفو موراليس، الذي حكم البلاد منذ 2006، إلى المكسيك. وفي المقابل انحنى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أمام العاصفة رغم اعتراف الولايات المتحدة برئيس البرلمان المعارض خوان غوايدو الذي نصب نفسه رئيسا للبلاد بشرعيته. ولا يزال القلق يساور الفنزويليين في ظل أوضاع سياسية على رمال متحركة، ولم يعد خافيا أن سقوط مادورو في كاراكاس سيحفز جماهير أميركا اللاتينية على الانتفاض في وجه حكامها. ومن الواضح أن خطاب المظلومية ونظرية المؤامرة اللذين يستنجد بهما زعماء القارة الأميركية، في مواجهة الضغوط الداخلية لم يعودا يجديان نفعا لعدة اعتبارات. ولعل أبرز هذه الاعتبارات تراجع منسوب الثقة في الديمقراطية في أغلب هذه الدول، ففي بوليفيا لم يخرج الشعب من أجل المطالبة بتحسين الوضع المعيشي هناك بل انتفض رفضا لبقاء الرئيس إيفو موراليس، الذي كانت تشير جميع استطلاعات الرأي إلى أنه سيخرج منهزما في انتخابات أكتوبر، لكن حدث العكس وخرج منتصرا من الدور الأول بلا حاجة إلى دور ثان. وغذت الرغبة الجامحة لدى الجماهير البوليفية في الإطاحة بالزعيم اليساري الانتقادات الموجهة من مراقبين دوليين للانتخابات بإقرارهم بوجود إخلالات كان لها الأثر العميق على النتائج. فر موراليس إلى المكسيك وطوت بوليفيا صفحة حكمه، ولكن نفس السيناريو الذي عاشته لاباز يتكرر هذه الأيام في كولومبيا، ولئن اختلفت الأسباب فإن المغزى واحد وهو الاحتجاج على تراجع الديمقراطيات في أميركا اللاتينية، وكذلك ضد السياسات الاقتصادية المجحفة في حق شعوبها. ويرى المحتجون الكولومبيون أن رئيسهم المحافظ إيفان دوك لم يفعل ما فيه الكفاية لتنفيذ جوانب أساسية من اتفاق السلام، مثل تنمية المناطق الريفية بهدف إثناء سكانها عن الانضمام إلى الجماعات المسلحة. وبدأت شعبية الرئيس دوك تتراجع بسبب ما يعتقد أنه محاولات من جانبه لتقويض اتفاق السلام مع منظمة “فارك”، والذي أنهى صراعا استمر لمدة 52 عاما وخلف أكثر من 260 ألف قتيل. واللافت للانتباه في المظاهرات التي انتشرت في دول أميركا اللاتينية انتشار النار في الهشيم هو أنها شملت الدول الغنية والمستقرة والفقيرة معا. فالتشيلي على سبيل المثال لا الحصر هي دولة ذات معدلات تنمية بشرية عالية، ولديها أعلى متوسط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة، إضافةً إلى أنها من أكثر دول المنطقة تقدمًا من الناحية الاقتصادية، مما مكّنها من الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2010. ولم تمنع هذه المؤشرات، التي تدل على أن الاقتصاد التشيلي من أكبر اقتصادات أميركا، من تعرض البلاد لهزات اجتماعية، حيث أدى انخفاض أجور العمال والتفاوت في توزيع الدخل إلى بروز حركة احتجاجية تعبر عن سخط شعبي متزايد على تدهور المستوى المعيشي هناك. ومنذ اتساع رقعة الاحتجاجات في أميركا اللاتينية بدأ الحديث عن تداعيات هذه الموجة يتواتر، فالاستقطاب على أشده في الدول الأميركية كما في العالم والشرق الأوسط أساسا. ومثل فرار موراليس نبأ سارا لواشنطن التي سارعت إلى الاعتراف بنائبة رئيس مجلس الشيوخ الثانية جانين آنيز، التي أعلنت نفسها رئيسة للبلاد. ولم يكن لدى واشنطن خيارا أفضل من الاعتراف بسلطة آنيز لتطبيع العلاقات مع بوليفيا، فكانت مكافأة آنيز من خلال تعيين أول سفير للحكومة البوليفية في واشنطن منذ 11 عاما. وكانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قد قُطعت عام 2008 بطرد السفير الأميركي في لاباز فيليب غولدبرغ، والسفير البوليفي في واشنطن غوستافو غوزمان. والمؤكد أن انهيار الأنظمة اليسارية التي تربطها علاقات وطيدة مع كل من الصين وروسيا سيكون بمثابة الإعلان عن فتح صفحة جديدة من العلاقات مع واشنطن، ومع تولي اليسار الحكم في بعض البلدان على غرار الأرجنتين والمكسيك فإن ذلك يعني أن سياسات تلك الدول ستصاغ نحو المزيد من التقارب مع الأنظمة اليسارية. ولكن هذه الأزمات التي تجدّ اليوم في أميركا اللاتينية كما في الشرق الأوسط تدعو إلى التفكير بجدية في مصير الأنظمة التقليدية في ظل متغيرات سياسية عنوانها الأبرز صعود الأنظمة الشعبوية واليمينية المتطرفة سواء كان ذلك في العالم العربي أو في أوروبا، وخير دليل على ذلك صعود اليمين المتطرف في إسبانيا كما في إيطاليا وفرنسا وغيرهما.
مشاركة :