تتقاطع التكهنات والتحليلات بشأن موعد غزو نظارات الواقع المعزز، التي ستغمر حياتنا بالتفاصيل الافتراضية وتجعلنا نرى العالم بعين جديدة، والتي يرى كثيرون أنها ستكون القفزة التكنولوجية المقبلة، التي قد تهمش دور الهواتف الذكية بشكلها الحالي. وتتجه أنظار الكثيرين إلى ما ستفعله شركة أبل، التي أثبتت منذ افتتاحها لعصر الهواتف الذكية قبل 12 عاما، أنها بوصلة إيقاع التحولات في تكنولوجيا الاتصالات، حيث أنها لم تندفع إلى أي تقليعة جديدة إلا بعد أن تصبح ممكنة الانتشار على نطاق واسع. لذلك فإن الخطوات المتحفظة لدخول أبل إلى عالم نظارات الواقع المعزز، فيها ما يشير إلى أن الهواتف الذكية ستبقى على عرش الأجهزة الشخصية الذكية لعدة سنوات، وأن تلك النظارات لن تقتحم حياتنا بقوة في المستقبل القريب رغم الإعلانات الاستعراضية وطرح نسخ أولية من قبل بعض الشركات المنافسة. وكانت أبل قد نأت بنفسها عن السباق المحموم لطرح هواتف ذكية تدعم الجيل الخامس، وتجاهلت تلك التقنية في هواتف آيفون 11 الجديدة لأن تلك التكنولوجيا لا يزال أمامها عامان على الأقل لتبدأ بالانتشار على نطاق عملي. تشير الرسائل الصادرة عن أبل إلى أن المستهلكين سوف يتعين عليهم الانتظار حتى عام 2023 للحصول على نظارات أبل الذكية، التي طال انتظارها بالفعل، بعد أن جرى الحديث عنها منذ سنوات. وتؤكد تسريبات موقع أخبار التكنولوجيا ذي انفورميشن (The Information) أن المسؤولين التنفيذيين في أبل أخبروا موظفي الشركة مؤخرا أن نظارة أولية متعلقة بتلك التكنولوجيا يمكن إطلاقها في عام 2022. وذكرت التسريبات أن المسؤولين قالوا إن من المقرر أن تصل نظارات الواقع المعزز “الحقيقية” بعد سنة من ذلك أي في عام 2023. ولم تذهب أبل إلى نفي تلك التسريبات واكتفت برفض التعليق، لكن تم تأكيد التقرير من قِبل شخص مطلع على خطط الشركة. قبل ذلك، كان الحديث يجري عن إمكانية إطلاق نظارة أبل للواقع المعزز في بدايات العام المقبل، لكن الجدول الزمني المطول يعكس العديد من التحديات الفنية، التي لم يتم حلها في التصميم والمكونات المطلوبة لجعل نظارات الواقع المعزز تحدث وقعا حقيقيا وليس مجرد تقليعة استعراضية عابرة. وكان تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل قد أكد مرارا أن نظارات الواقع المعزز فكرة عظيمة، لكنها تحتاج لبعض الوقت لتصبح مثل الهاتف الذكي أي ألا تكون لمجموعة سكانية معينة بل للجميع. نماذج تجريبية أولية ولدت جميع النظارات المبكرة مباشرة من رحم الهواتف الذكية. وقد استخدمت شركة أوكولوس في.آر قبل أن تشتريها شركة فيسبوك شاشات الهاتف الذكي لعرض العالم الافتراضي في نظارتها. كما استخدمت شركات أخرى مثل سامسونغ ذات الوسيلة أي وضع الهاتف الذكي على النظارة لدخول العالم الافتراضي. أما شركة سناب تشات فلم تقدم في نظارتها المزودة بكاميرات، والتي طرحت جيلها الثالث، سوى عدسات متغيرة ثانية ومستشعرات صور تم تقليصها لتناسب أجهزة الهواتف الذكية. وتبدو جميع المغامرات خطوات استكشافية أولية وبدائية للانتقال الفعلي لمزج الواقع المعزز بتفاصيل أحيانا بشكل عملي وعلى نطاق واسع لتحقيق قفزة ودخول عهد تكنولوجي جديد يخلف المرحلة التي يحتل الهاتف الذكي عرشها حتى الآن. فالهواتف الذكية كانت قفزة كبيرة، حين أصبحت أجهزة كمبيوتر متطورة محمولة، لكن يبدو أن نقل كل تلك الإمكانات إلى نظارة يمكن ارتداؤها وتضم إضافات نوعية كبيرة، لا يزال يحتاج لتطورات تكنولوجية كبيرة. قد يرتبط ذلك بمسار انتشار ورسوخ الجيل الخامس للاتصالات، الذي من المتوقع أن يحدث بعد عامين أو ثلاثة أعوام، لأن الواقع المعزز يحتاج كمية هائلة من البيانات عن كل شيء حولنا. كما أن نظارات الواقع المعزز تحتاج دقة هائلة في تحديد زاوية النظر تصل إلى الدقة المطلقة، من أجل عرض بيانات عن المشهد الذي ننظر إليه، وهو ما يمكن أن يوفره الجيل الخامس بعد نضوجه. أما الجيل الرابع فإنه بعيد جدا عن الدقة العالية في تحديد المواقع ناهيك عن زاوية النظر. ولذلك فإن نظارات الواقع المعزز الحقيقية، التي تصل إلى جعل مرتديها يعتقدون أن الصورة الرمزية المجسمة أمامهم موجودة بالفعل، لا تزال تتطلب الكثير لكي تصبح نقلة نوعية كبرى تزيح الهواتف الذكية عن عرش الأجهزة الإلكترونية. ويعني ذلك أنه يجب تطوير العديد من المكونات الحيوية وعمليات التصنيع الخاصة بها من الصفر، دون الاستفادة مما تم إنجازه في الهواتف الذكية. وذلك قبل أن يبدأ اختبار ما إذا كان المستهلكون يريدون هذه الأشياء ويقبلون على شرائها لتحقيق الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في إنتاجها. وقال بن باجارين، المحلل في كرييتيف ستراتيجيز إن “الهواتف الذكية كانت أجهزة كمبيوتر متطورة بشكل أساسي، أما الانتقال إلى ارتداء شيء ما على الوجه، فإن ذلك أمر جديد تماما”. نظارة مايكروسوفت الباهظة بعيدا عن حسابات أبل المتحفظة، دخلت مايكروسوفت في المغامرة وبدأت الأسبوع الماضي تسليم نظارة هولولينز 2 للزبائن في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأيرلندا ونيوزيلندا وأستراليا. لكن السعر المرتفع للنظارة، وهي الجيل الثاني من النسخة التي طرحت في عام 2016 والبالغ 3500 دولار، يجعلها بعيدة عن فرص الانتشار بين المستخدمين الأفراد. وأعادت مايكروسوفت تصميم النظارة الجديدة لتتضمن زيادة مجال الرؤية بشكل كبير، من 34 درجة إلى 52 درجة قطريا وأدوات تحكم أكثر تعقيدا عبر الإيماءات، إضافة إلى توزيع وزنها بشكل مريح. وتشير التغييرات والسعر الباهظ إلى أن مايكروسوفت تستهدف الشركات بهذه النظارة، وليس المستخدمين العاديين. وتشمل الاستخدامات الأكثر شيوعا للنظارة المساعدة عن بعد، مثل مساعدة عامل ميداني في إصلاح معدات بمساعدة خبير بعيد، وتصور البيئات الثلاثية الأبعاد المعقدة، مثل التحقق من مدى توافق نموذج افتراضي مع مكان تنفيذه، إلى جانب تدريب الموظفين. وتستخدم النظارة تتبع اليد والعين، ويمكن للمشترين دفع رسوم شهرية إضافية لبرامج المساعدة عن بعد من مايكروسوفت، والتي تم تصميمها لاستكشاف الأخطاء وإصلاحها مباشرة. تحديات تكنولوجية تتطلع جميع الشركات المتسابقة نحو انطلاقة جديدة تحقق أرباحا كبيرة، بعد تشبع سوق الهواتف الذكية وكثرة المتنافسين، الذين قلصوا هامش أرباحه بشكل كبير. وتبدو جميع النظارات المطروحة مجرد خطوات أولية، لكنها تتجه بثبات نحو انقلاب تكنولوجي هائل يمكن أن يرسخ أقدامه بعد نحو 3 أعوام، استنادا إلى حسابات أبل الأكثر رصانة وتحفظا من بقية منافسيها مثل مايكروسوفت وغوغل وفيسبوك. ويكمن التحدي في الأنظمة البصرية لتحقيق النقلة النوعية المنتظرة. هناك عدة طرق لإسقاط صور شبه شفافة على العدسات أو المرايا داخل نظارات الواقع المعزز، لكن لم يبرز أي من تلك الطرق حتى الآن باعتباره الصيغة الفائزة. حتى الآن لا تقدم الكثير من النظارات الرائدة سوى مجال رؤية ضيق فقط، مما يعني أن الصور الرقمية يمكن أن تكون مقطوعة حول الحواف أو محاصرة داخل صندوق غير مرئي. ليس هناك مجال لتوسيع الرؤية اليوم إلا داخل نظارات كبيرة جدا تحجب رؤية العالم المحيط بنا، أي أنها لن تمزج حياتنا بالواقع المعزز. ويعزى ذلك جزئيا إلى حجم الأنظمة الضوئية نفسها، التي تحتاج لانقلابات تكنولوجية كبيرة للوصول إلى النظارات التي رسمها لنا الخيال العلمي حتى الآن. كما تحتاج لتطوير البطاريات اللازمة لتشغيلها، حيث سوف يتطلب مضاعفة ارتفاع وعرض مجال الرؤية أربعة أضعاف الطاقة لأن جعل الصورة الرقمية أكثر إشراقا يضع ضغطا إضافيا على البطاريات لتمكين المستخدم من رؤية الصورة في ضوء النهار. ويقف ذلك خلف تصميم نظارات الرأس الحالية، مثل ماجيك ليب ومايكروسوفت هولولينز، للاستخدام في داخل الغرف لأن رؤية الصور ستكون صعبة في ضوء الشمس الساطع. ويمكن لزيادة الطاقة أن تكون لها تداعيات غير مريحة مثل ارتفاع درجة حرارة النظارة بشكل كبير. كما تواجه الشركات مشكلة البحث عن معالجات متخصصة بدل وحدات المعالجة المركزية للأغراض العامة. ويحاول مصنعو الرقاقات إنتاج شرائح متخصصة ذات أبنية مختلفة مصممة حصرا للوظائف الرئيسية في هذه النظارات، وتكون قادرة على استشعار حركة الرأس وتشغيل خوارزميات رؤية يمكنها التعرف على الكائنات. وينطوي ذلك على تكاليف استثمارية مخيفة لبناء هذا النوع الجديد من السيليكون، وهو ما لا يقدر عليه سوى الشركات الكبرى، التي لا يمكنها الوقوف متفرجة أمام حتمية هذه القفزة التكنولوجية المقبلة. ومع ذلك يبقى أفق تلك النظارات غامضا بانتظار الحلول التقنية للعقبات التي لا تزال قائمة. والتي قد تحمل انعطافات ثورية ليست في حساباتنا الحالية.
مشاركة :