في مقال الأسبوع الماضي تناولت ما اعتقدته مسئولية تاريخية تتحملها النخب المدنية تجاه الوطن، ودعوتها إلى تحمل مسئولية مواقفها السياسية وتحديدا منذ 30 يونيو وحتى اللحظة. في مقال هذا الأسبوع أحاول إكمال الصورة بالحديث عن واجبات النخب الإسلامية تحملا لمسئولياتها تجاه الوطن. مخاطبتي للنخب الإسلامية تعني قبولي من حيث المبدأ بحقوقها السياسية ومن قبلها الاجتماعية والاقتصادية فضلا عن الجنائية كلاعب سياسى أصيل فى المعادلة التاريخية لصنع مستقبل مصر. وهذا القبول لا علاقة له بالحب أو الكره، بالاتفاق أو الاختلاف، ولكنه يتعلق بإقرار مبدأين، الأول هو قبول الآخر كمبدأ حضاري وسياسي قبل أن يكون أخلاقي. أما المبدأ الثاني فهو يتعلق بالواقعية في التحليل السياسى والتي تحتم علينا الاعتراف بأن الإسلامين هم جزء من تاريخ وحاضر ومستقبل التفاعلات السياسية فى مصر، بغضك لهم أو ادعائك قدرة النظام الحالي على التخلص منهم للأبد لن يغير من هذه الحقيقة التي عليك إما التعامل معها بواقعية أو استمرار الغوص في أحلام إعادة هندسة التاريخ. يثير الكلام عن الإسلامين هذه الأيام ثلاث إشكاليات كبرى. أما الأولى فهى ارتباط الأعمال الإرهابية بالإسلاميين على الأقل فى ذهنية المواطن العادى وبالتالى فهناك نوع من الرفض لدى قطاعات شعبية عديدة للكلام عنهم أو معهم، أما الثانية فهى تلك النميمة النخبوية التى تنتشر بين وجهاء القوم بأن أى كاتبا يتحدث بلا هيستريا أو فوبيا عن الإسلامين مطالبا بتطبيق القانون عليهم كما على غيرهم مع عدم قبول أى انتهاكات للحقوق السياسية والمدنية لأى مواطن هو بالضرورة إسلامى متخفى أو خلايا نائمة أو غيرها من العبارات ذات الطبيعة التآمرية التى يغذيها الإعلام وكتبة السلطان. ثم تأتى إشكالية ثالثة من قبل الإسلامين أنفسهم الذين يرفضون أى انتقاد لهم تحت دعوى أن ما يحدث لهم منذ 30 يونيو وحتى الآن فيه من العقاب ما يكفى متخذين من المظلوميات ستارا وحصانة من أى نقد. *** رغم كل هذه الإشكاليات. أعتقد أن قول ما تعتقده صحيحا للمصلحة العامة يظل واجبا على الجميع. ومن هذا المنطلق تحتم المسئولية التاريخية على الإسلاميين الإقرار بخمس قضايا فشلوا فى التعامل معها وجرتهم وجرت الوطن إلى المأزق الحالى: أولا: تحتم المسؤولية التاريخية على النخب الإسلامية الاعتراف بأن مشروعهم الإسلامى مليء بالشعارات والقيم والمبادئ ولكنه خال من أى مضمون يتعلق بكيفية تحويله إلى برنامج سياسى واقعى للحكم وإدارة شئون المجتمع. فعلى مدار عقود مما عرف بالصحوة الإسلامية عجزت الأخيرة عن بلورة أى مشروع للحكم والإدارة يتعامل مع قضايا الواقع المعاصر وتعقيداتها. ظل المشروع أسير شعارات "الإسلام هو الحل" أو فرضية "العودة إلى الله كمخلص من المشاكل"، دون تقديم أى حلول ترتبط بكيفية التعامل مع هذا الواقع وما إذا كان الإسلام كدين يقدم حلول متفردة لقضايا المجتمع والسلطة أم أن المسلمين كغيرهم قادرون على المساهمة فى تطور البشرية إذا ما امتلكوا الأدوات المناسبة؟ فى لب هذه المعضلة تأتى قضية الشريعة الإسلامية كلغز محير. فعلى تنوع الفاعلين الإسلامين بين جهادين وسلفيين وإخوان وغيرهم من مفكرين وعلماء وكتاب لم يبلور أحد مشروع واقعى لتطبيق الشريعة وعجز الجميع فى ظنى عن تبرير التناقض الظاهرى بين الترويج لعدالة الشريعة وسماحتها وقدرتها باعتبارها قانون إلهى على حل مشاكل البشر وبين عشرات الأمثلة على ممارسة الاضطهاد والقمع واللفظ السياسى لغير المسلمين أو حتى لغير المؤمنين. وإذا قيل أن هذه الممارسات ليست من الإسلام وأنها تعبيرا عن تيارات متطرفة فأين إذا تلك الممارسات الصحيحة التي يمكن ممارستها باسم الشريعة وتظل قادرة على توفير العدالة وحماية حقوق المواطنة للجميع دون تمييز؟ ثانيا: تحتم المسؤولية التاريخية على النخب الإسلامية المصرية الاعتراف أن نظام تنشأتهم الاجتماعية والسياسية على مثاليته ولكنه عزل أبنائهم عن المجتمع وأعاقهم عن التفاعل مع غيرهم من أبناء الوطن ومشاكل المجتمع وأنهم بذلك عجزوا عن بلورة إطار فكرى قادر على الإنسلاخ من حلم الخلافة التاريخى والتعامل بواقعية مع حقيقة الدولة القومية وتنوعها الثقافى والعرقى. مازالت الأدبيات الإسلامية تتجادل حول أحقية غير المسلم فى الحصول على المناصب العامة والحساسة تحت دعاوي عدة كلها متأثرة بفلسفة عصور مضت لم تعرف أو تشهد دول قومية. مازال الخطاب الإسلامى فى مجمله أسير لزمن قديم لا يعترف بالتنوع وينطلق من فرضية التمايز الإسلامى كمؤهل للحصول على مناصب قيادية فى الدولة. هو خطاب محافظ عند معظم النخب الإسلامية وشعبوى عنصرى تحريضى عند معظم ما دونها. فمن يملك الجرأة التاريخية المطلوبة لإحداث تحولات هيكيلية ليست فقط فى مفردات الخطاب ولكن أيضا فى فلسفته وفرضياته الرئيسية؟ متى تقرأ النخب الإسلامية من التراث الإنسانى غير الإسلامى بلا تشكك أو أحكام مسبقة؟ ثالثا: المسؤولية التاريخية للنخب الإسلامية وخصوصا أولئك المصطفون سياسيا ومازالوا وراء الموقف السياسى لجماعة الإخوان المسلمين تحتم عليهم الإقرار بأن الأخطاء التى وقعت فيها الجماعة فى الفترة بين 2011 و 2013 ليست بسبب سهوهم أو نيتهم الطيبة كما يحلو لهم التبرير بين الحين والآخر ولكنها سياسات مقصودة نبعت من حسابات انتهازية واعية بالقدرة على إرث دولة مبارك والتحالف مع أجهزة الدولة لضمان ولاء الأخيرة، وهو ما يتطلب ما هو أهم من الاعتذار بكثير، ألا وهو الإقرار ببيع القوى الثورية بثمن بخس لحساب الجماعة وهو ما انقلب على الجميع فى النهاية. فهل نحصل على هذا الإقرار التاريخى أم نستمر فى الترويج لأسطورة "طيبة الجماعة" و "حسن نية مرسى" كمسوغات لإضفاء مسحة مقدسة على الجماعة المغرر بها؟ رابعا: تحتم المسؤولية التاريخية على النخب الإسلامية الإقرار بحق الجماهير بالخروج عليها فى 30 يونيو يأسا من سياسات الجماعة وتصرفاتها وبؤس قراءتها للواقع. مع عدم خلط حق الجماهير المشروع فى الثورة ضد الجماعة ورئيسها وانضمام فلول النظام أو أجهزة الدولة للجماهير استغلالا للموقف. إن حصر النخب الإسلامية ما حدث فى 30 يونيو وما تلاه فى 3 يوليو فى جدلية الانقلاب العسكرى على صحتها أكاديميا، لكنها حيلة لخلط الأوراق وعدم الاعتراف أن الجماعة فشلت وأن الجماهير خرجت عليها حقا وصدقا بما فيها تلك الجماهير التى أيدت مرسى مسبقا وقررت يأسا منه مطالبته بإجراء انتخابات مبكرة فرفض ومعه الجماعة بشدة. ويشهد التاريخ أن كل القيادات الإخوانية كانت ترد على إشاعة انتشرت بين 1 يوليو ومساء 2 يوليو 2013 بشأن تنازل مرسى وقراره بإجراء انتخابات مبكرة بأن " هذا لن يحدث ولو أرادوها انقلابا فليكن" فى إشارة واضحة أن الجماعة لم تكن على استعداد للخروج من المشهد بانتخابات أو ثورة وأن المطلوب كان إما استمرار فى الحكم أو انقلابا يغسل خطاياهم. فهل تملك النخب الإسلامية الجرأة التاريخية لتقديم قراءة مغايرة ليونيو؟ أخيراً: تحتم المسؤولية التاريخية على الإسلاميين عدم اتخاذ المظلوميات والبكائيات كحصانة من المحاسبة السياسية. مازلت ومعى كثيرون ضد ما جرى فى رابعة وما سبقها أو تلاها من انتهاكات فجة لحقوق الانسان, وأبسطها حقه فى الحياة، لكن القراءة غير المتحيزة للموقف تقول بأنه بينما يتحمل النظام المسئولية الجنائية لما جرى فى تلك الأيام المشؤومة ومازال، فإن الجماعة ومجمل النخب الإسلامية التى أيدتها تتحمل المسئولية السياسية والأخلاقية عن دفع أتباعها وأنصارها للموت فى سبيل صراع بائس على السلطة. متى تعترف تلك القيادات الإسلامية بأنها تتحمل جزء من مسئولية دماء أبنائها ممن دفعتهم للموت تحت شعار الدفاع عن الإسلام والعقيدة، بينما قامت بتوقيع اتفاقا ضمنيا مع السلطة لتقديم هذه الدماء كأضحية لغسل تاريخ الجماعة من خطايا الحكم والسلطة؟ *** أمام النخب الإسلامية تحديات تاريخية كبرى أهمها الإقرار بأن القدسية هى لله وكتبه ورسله وما عدا ذلك فهى اجتهادات بشرية تصيب وتخطأ. عليهم أن يتمتعوا بالإيثار لحفظ دماء أبنائهم من توريث المظلوميات التاريخية، والاعتراف لهم بأن ما وقع من مآسى خلال السنوات القليلة الماضية لا علاقة له بالنداء المقدس للدفاع عن الدين ضد أعداءه، ولكن له علاقة بمآسى فلسفة وافتراضات ومسلمات المشروع الإسلامى الذى يجب أن يتعرض لنقد كامل دون أى حساسيات أو خطوط حمراء. مازلت أؤمن أن هناك منطق ما وراء بناء مشىروع حضارى له فلسفته وافتراضاته الخاصة. وسأظل مدافعا عن حق الجميع فى التعبير عن أفكارهم وآرائهم طالما لا تحرض على عنف أو تحض على كراهية المجتمع، ولكن دعنا نعترف أن مجهودات بناء المشروع الإسلامى الذى يقف بين أيدينا حاليا ذهبت فى الطريق الخاطئ أو هكذا أظن. فهل نشهد خطوة تاريخية فى الاتجاه الصحيح؟ هكذا أتمنى.
مشاركة :