بعد أسبوعين على تكليفه من قبل حركة النهضة الإسلامية بتشكيل الحكومة التونسية الجديدة، حاول رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي تنويع المباحثات والمفاوضات لتشمل مختلف الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية للاستماع إلى آرائها ونصائحها، وكذلك لإحاطة نفسه بحزام سياسي وشعبي يمكّنه من نيل ثقة البرلمان عندما يطرح عليه تشكيلة حكومته وبرنامجها للخمس سنوات المقبلة. وفي خضم هذه المساعي التي تسبق الإعلان عن التركيبة الحكومية وعن الائتلاف الحكومي الذي سيسندها، يؤكد السياسي التونسي المخضرم والزعيم السابق لحزب التكتل ورئيس المجلس الوطني التأسيسي 2011-2014 مصطفى بن جعفر في حوار مع “العرب” أنه “لا يجب الانشغال فقط بالحزام السياسي للحكومة، فيما يقع التغافل عن البرنامج الذي ستقدمه للتونسيين، وإن كان برنامجا يلبّي انتظاراتهم ويتناسق مع المرحلة الجديدة التي تدشنها تونس أم لا”. وتحدث بن جعفر لـ”العرب” عن تصوراته للمرحلة المقبلة، خاصة أنه التقى مؤخرا بالحبيب الجملي، وذلك بالتزامن مع ورود الكثير من التسريبات التي تؤكّد أن بن جعفر قد يكون ضمن قائمة وزراء الحكومة الجديدة. وكان بن جعفر قد التقى مؤخرا رئيس الحكومة المكلّف في إطار المشاورات الحكومية، التي اقتضت توسيع نطاق محادثاتها والإنصات إلى تصورات قيادات سياسية خبرت السلطة في أحلك الظروف التي مرت بها تونس، وأسهمت في قيادتها إلى بر الأمان في مرحلة انتقالية صعبة. ومن منطلق خبرته يؤكد بن جعفر على ضرورة عدم الانحراف عن الأزمة الحقيقية للبلاد بحيث لا يجب حصرها في نجاح أو إخفاق مشاورات تشكيل الحكومة، قائلا “هي أزمة برامج وإصلاحات يترقبها التونسي ويأمل أن يجني ثمارها أولا، بعيدا عن الخلافات الحزبية والصراع على التموقع في مشهد جديد”. وكشف بن جعفر عن فحوى لقائه برئيس الحكومة المكلّف، موضحا أن الاجتماع في قصر الضيافة بقرطاج، كان فرصة لتبادل الآراء حول الوضع العام، وأنه تطرّق إلى ظروف تشكيل الحكومة الجديدة”. ونفى الرئيس الأسبق للبرلمان التونسي صحة ما ورد في تقارير إعلامية محلية أشارت إلى أن الجملي اقترح عليه حقيبة وزارية، لكنه في المقابل لم يستبعد ذلك في حال وقع التوافق على برنامج الحكومة واقتنع بخياراتها. ويوضح ذلك بقوله “مازالت هناك نقاط استفهام كبيرة بخصوص خيارات الحكومة وبالطبع قد يأتي الوقت الذي ستطرح فيه هذه المسألة، والأهم هو الاتفاق على التوجّه الذي ستتبناه الحكومة، إن كان متلائما مع انتظارات الشارع أم لا، حينها لكل حادث حديث”. وبالعودة إلى المشاورات الحكومية يقول بن جعفر “قدّمتُ للجملي تصوّري الذي سبق وأن أفصحت عنه، وسبق أن أوضحت أن تونس تمر بفرصة تاريخية ثانية بعد ثورة يناير، ويجب اغتنامها وتدارك الأخطاء السابقة”. ويعتقد بن جعفر أنه “يجب استثمار هذه الفرصة لإعادة ترتيب البيت بعد الفوضى التي طغت على المشهد السياسي في السنوات الأخيرة”، لافتا بقوله “علينا اغتنام هذه الفرصة لاستكمال المسار الديمقراطي ووضع المؤسسات الدستورية التي لم نتقدّم بها وفي مقدمتها المحكمة الدستورية، وبقية المؤسسات والهيئات المستقلة والتي من شأنها أن تشكّل سلطة رقابية وتدعم طريق الديمقراطية في البلاد”. معضلة قانون الأحزاب أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة وكذلك الرئاسية التي فاز بها قيس سعيّد، أن إرادة الناخبين في تونس ذهبت لمعاقبة بعض المدارس السياسية التي تصدرت المشهد بعد ثورة يناير 2011، وأن ثقتهم ببعض الشخصيات قد فقدت وهو ما يطرح على الأحزاب التي مُنيت بخيبات كبرى، إعادة النظر في أشكال ممارستها للفعل السياسي. ويقترح مصطفى بن جعفر في هذا الصدد التفكير بشكل جدّي في قانون جديد للأحزاب ينظم الحياة الحزبية تفاديا لظاهرة السياحة الحزبية والبرلمانية، التي استشرت في البلاد مؤخرا، ما شوّش على الحياة السياسية ككل. ويقرّ بن جعفر بأن الدعوة إلى تنقيح القانون الانتخابي لها مبرراتها في ظل ولادة برلمان جديد في أعقاب الانتخابات التشريعية في أكتوبر الماضي، لكن ما سيصعب ذلك أن البرلمان جاء مشتتا وقد تشلّه الانقسامات بحسب قوله. ويقول “علينا التفكير من الآن وبهدوء في مسألة مراجعة قانون الانتخابات، فالمشهد السياسي يشكو من عدم استقرار خاصة مع إفراز الانتخابات لبرلمان فسيفسائي ليس من السهل إدارته، كما ليس من السهل إبراز أغلبية مستقرة تسمح لأي حكومة ما أن تذهب في الإصلاحات الجوهرية التي تحتاجها البلاد”. يجب التفكير بشكل جدي في قانون أحزاب لتنظيم الحياة الحزبية تفاديا لظاهرة السياحة الحزبية والبرلمانية التي شوشت على الحياة السياسية ويرى بن جعفر أن الواقع السياسي الجديد يحتاج إلى أوسع ما يمكن من التوافق والإنصات إلى كل الحساسيات الحزبية دون إقصاء”. ويشير إلى أن تسيير المشهد البرلماني الجديد يحتاج إلى الكثير من الحكمة والرصانة لتسييره، لن تكون إدارته سهلة. وحسب تقديره لا يجب الانشغال أكثر من اللزوم بمهمة توفير توافق على حساب وضوح الرؤية بسبب هاجس البحث عن الحزام السياسي الأوسع، بقوله “هذا التوافق رخو إذا لم نقل إنه توافق مغشوش ومن تداعياته الخطيرة أننا سنتوافق على القاسم المشترك الأدنى وعندها سنراوح مكاننا وستبقى خيارتنا ضبابية ولن تسمح للبلاد بالتقدم”. ويقترح الرئيس الأسبق للبرلمان أيضا وجوب الاتفاق على ميثاق أخلاقي ينظم الحياة السياسية ويرتقي بالخطاب السياسي ويحيد به عن التجاذبات، كما تطرّق إلى مسألة هامة بحسب تعبيره وهي المصالحة الوطنية. قائلا “لا بد من ميثاق مصالحة وطنية وأتصور أنه بوسع رئاسة الجمهورية لما تتمتع به من دعم شعبي ورصيد معنوي قوي، أن تتقدّم بمبادرة ستكون لها حظوظ وافرة في النجاح”. أما على الصعيد الاجتماعي، وهو التحدي الأهم أمام الحكومة الجديدة، يؤكد بن جعفر ضرورة الاستجابة لانتظارات المواطن الذي يأمل في تحقيق إصلاحات اقتصادية حقيقية، تنعكس إيجابا على أوضاعه المعيشية وعلى جودة الخدمات اليومية من صحة وتعليم ونقل. ويلفت إلى “حاجة البلاد اليوم إلى مراجعة نموذجها التنموي وخياراتها الاقتصادية”. وسعيا إلى تطبيق هذه الإصلاحات، يشير بن جعفر إلى ضرورة أن يكون الفريق الحكومي الجديد متناغما، وله رؤية وخيارات سياسية واضحة يتحمّل فيها كامل مسؤوليته”. ويحذّر من أن “السعي المحموم إلى توسيع رقعة التوافق فقط لغاية سياسية دون توضيح طبيعة الخيارات والبرامج يقود إلى ضبابية في المشهد الراهن، ويقود في نهاية الأمر إلى حكومة تصريف أعمال أكثر منها حكومة إصلاحات كما ينتظره الشعب ويستدعيه وضع البلاد اليوم”. مأزق تشكيل الحكومة أمام الجملي شهران لتشكيل ائتلاف حكومي من البرلمان الذي يشغل فيه حزب النهضة ربع عدد المقاعد فقط. وفي حال فشله في تشكيل حكومة خلال شهرين، يكلّف الرئيس “الشخصية الأجدر” بالمهمة. وتحتاج أي حكومة جديدة يمكن أن يشكّلها الجملي إلى تأييد حزب واحد آخر على الأقل لتحوز الأغلبية البسيطة اللازمة للموافقة على القوانين الجديدة وهي 109 مقاعد. لكن لا تبدو مفاوضات تشكيل الحكومة يسيرة في ظل التباين الكبير بين مرجعيات الأحزاب المرشحة لدخول الائتلاف بقيادة حركة النهضة، وفي مقدمتها حزب “قلب تونس” الليبرالي الذي يمثّل الكتلة الثانية في البرلمان من جهة و”ائتلاف الكرامة” اليميني المحافظ من جهة أخرى. ويرى بن جعفر أن توسيع الجملي لمشاورات الحكومة بين الأطراف السياسية، كان خيارا سليما، وستسمح له بتكوين فكرة أوضح على الأشخاص. لكن يبقى الأهم هو التركيز على برنامج الحكومة. موضحا أنه في الوقت الحالي مازالت صورة المشاورات غير واضحة وليست نهائية. وعلى الرغم من اعتباره هذه الخطوة الإيجابية في اتجاه توسيع رقعة التشاور، يقول بن جعفر “لا نستطيع أن نحكم على رئيس الحكومة مسبقا، فالصعوبة الحقيقية التي تنتظره هو حين يكون مضطرا لتوضيح خيارات حكومته، وحتى لو كانت خياراته ممنهجة تلبّي مطالب الشارع، لكنها لا يمكن أن ترضي جميع الأطراف السياسية. ويلفت إلى أنه من الضروري أن يفصح الجملي على برنامجه ويوضح معالمه، وأن يطمئن الشارع أنه سيكون فعلا قائد الفريق وسيعمل على تطبيقه”. وفي معرض ردّه على سؤال حول الشروط التي تضعها أحزاب محسوبة على الثورة مثل التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة للمشاركة في الحكومة تترأسها حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، ومنحها وزارات بعينها، يرى بن جعفر أن لكل حزب خياراته وأسلوبه، غير أنه كان من الأجدى أن يقع عرضها بشكل غير علني تجنّبا للمزايدات. ويبدي تفهمه لكل حزب يرفض الدخول في تحالف مع حزب النهضة المعني المباشر بتشكيل حكومة، غير أنه حذّر من أن يكون هذا القرار ضبابيا. ويؤكد أن تجربة الحكم في تونس أثبتت أنه يجب قبول الآخر والتعايش مع الأحزاب باختلافاتها والتعامل مع جميع الأطراف شريطة احترامها والتزامها بالدستور وبالقاعدة الديمقراطية. ويعتقد بن جعفر أن تونس خطت خطوة لا بأس بها في هذا المجال وتجاوزت الصعوبات التي تعرّضت لها في السنوات التي تلت الثورة مباشرة. ويقول “كنّا نتدرب على سلوكيات جديدة بعد الثورة، وكنّا مُجبرين على إنقاذ الوضع العام والمسار الانتقالي وأن نتفق مع من منحه الصندوق الثقة”. ويلاحظ أنه على الرغم مما أصاب النهضة من وهن بقيت الحزب الأول في البلاد. ويقول “لا بد من التعامل مع النهضة، ومن يرفض ذلك فليتركها تشكّل الحكومة وتسيّر البلاد وتتحمل المسؤولية.. لكن أن نبقى بين منزلتين فهذا يجب أن يتوقف لأنه يخلق ضبابية في المشهد السياسي، ويبعث الارتباك والحيرة لدى المواطن”. ويؤكد بن جعفر أن الوقت قد حان للانتقال من الخصومات ذات الطابع الحزبي أو الذاتي إلى النقاش حول البرامج للتقدّم بالبلاد. وأردف قائلا إن “ما يهم تونس اليوم هو البرامج التي تمكّن من الوصول إلى حل المشاكل المطروحة، وفي نهاية الأمر المواطن سيحاسب نخبه على أساس البرامج هل وقع تطبيقها وهل رؤيتها واضحة؟ هذا ما ينتظره”. رسالة الشارع أحدث فوز قيس سعيّد (61 عاما)، أستاذ القانون الدستوري، بالانتخابات الرئاسية بنسبة تتجاوز السبعين بالمئة مفاجأة مدوية، حيث مثّل هذا الفوز إعلانا واضحا برفض الناخبين للقوى السياسية الراسخة التي هيمنت على المشهد السياسي بعد ثورة عام 2011 والتي فشلت في معالجة المصاعب الاقتصادية بالبلد. ويؤكد بن جعفر على ضرورة استثمار مناخ التغيير واغتنام هذه الفرصة، حيث يقول “أدلى الشعب التونسي في الانتخابات الأخيرة برسالة واضحة في اتجاه المطالبة بالتغيير وإعادة القطار إلى سكة الانتقال الديمقراطي وبيّن فيها الشعب أنه يرفض المنظومة القديمة والليبرالية المتوحشة، كما أبدى تمسّكه بمطالبه الحيوية التي لم نُعرها اهتماما للأسف في السنوات الأخيرة”. ويرى أنه على الأحزاب التقاط هذه الرسالة، وأنه لا يجب التركيز على اتجاهات الحكومة يمينية أو وسطية لاسترضاء الأطراف فيما عملها يراوح مكانه ولا تحرز أي تقدّم على أرض الواقع، وإن حصل ذلك فسيبقى الشعب في حالة انتظار وربما حالة احتقان وسنجد أنفسنا بعد سنوات في نفس الوضع الذي وجدنا فيه أنفسنا في 2019”. ويقول “يجب الاتعاظ من الانتخابات الرئاسية وعلى الأحزاب استخلاص الدروس من الإخفاقات ومن النجاحات.. فلنتدارك أمرنا وهذه فرصة سانحة للتدارك”. ويتابع “الخلافات هي في جوهر الحياة السياسية الديمقراطية وأحزابنا ليست مصطفة في اتجاه وحيد، لكن المهم حاليا هو الاتساق مع مطالب الشارع، وتوفير أغلبية مريحة قادرة على تطبيق إصلاحات جوهرية ينتظرها ويطالب بها”. في معرض تعليقه على قدرة الرئيس التونسي الجديد على النجاح في مهامه. يرى بن جعفر أن ظروف نجاح سعيّد متوفرة، لكنّ السؤال هو “هل سيستغلها كما ينبغي؟ وهل سيجد في الساحة السياسية التجاوب المطلوب؟”. ويعتقد أن نجاح المرحلة القادمة مرتبط بمدى التناغم بين رأسي السلطة التنفيذية، خاصة أنه من دوافع الأزمة السياسية التي عاشتها تونس قبل وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي هو الصدام بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، إثر خلافات دبت داخل الحزب الحاكم آنذاك (نداء تونس) وقادت إلى تآكله. ويقول “عشنا في الفترة السابقة تصدّعا داخل الأغلبية الحاكمة، كان من انعكاساته تعطل الإدارة واحتقان الوضع الاقتصادي والاجتماعي”. ويضيف “لا نريد أن يتكرر هذا السيناريو في المرحلة القادمة، لذلك نؤكد على ضرورة إيجاد تناغم بين المشاركين في الحكومة الجديدة، حتى تكون الأهداف واضحة للجميع وكل طرف بوسعه آن يطبّقها انطلاقا من موقعه وحسب صلاحيات الدستور، وبدل الصدام سنرى تناغما وتكاملا بين رأسي السلطة التنفيذية”. وفي ختام حواره مع “العرب” يبدي السياسي التونسي مصطفى بن جعفر تقييمه لمسار المشهد السياسي الجديد الذي تشكّل في تونس أعقاب الانتخابات الجديدة، مُقرّا بصعوبة التكهن بمآلاته. ويقول “تونس في مفترق طرق وفي حالة انتظار لكن يعتبر انتظارا إيجابيا، هناك نسيم من الأمل وعودة الثقة بين الحاكم والمحكوم وإذا استغللنا هذا المناخ بالشكل الجيد سنحقق أهدافنا، وستتقدّم بالمنظومة الديمقراطية وسننجح في حل مشكلة التنمية في تونس”.
مشاركة :