تسلمت الألمانية أورسولا فون دير لاين، اليوم الأحد في العاصمة البلجيكية بروكسل، رئاسة مفوضية الاتحاد الأوروبي من سلفها جاك كلود يونكر رئيس وزراء لوكسمبورغ الأسبق. وأقيم احتفال مقتضب بتولي فون دير لاين رسميا مهامها شارك فيه رئيس المجلس الأوروبي الجديد البلجيكي شارل ميشال الذي تولى، بدوره اليوم الأحد، مهامه رسميا خلفا للبولندي دونالد توسك. يأتي تولي القيادة الجديدة للاتحاد الأوروبي مهامها في توقيت حرج للتكتل الذي يواجه صعوبات كبرى، لا سيما في ملفي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" والتوتر المتصاعد مع الصين والولايات المتحدة. وقالت فون دير لايين، في حضور رئيس البرلمان الأوروبي ديفيد ساسولي ورئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، إن على مسؤولي الاتحاد الاضطلاع بمسؤولياتهم الكبرى بصفتهم مؤتمنين على معاهدات التكتل. وتابعت الرئيسة الجديدة للمفوضية الأوروبية "إنها مسؤولية تجاه الشعب الأوروبي وتجاه الآباء والأمهات المؤسسين، وتجاه أطفالنا". وأضافت فون دير لايين، وهي أول امرأة تتولى المنصب، أن "من واجبنا أن نسلم الاتحاد أقوى مما تسلمناه... قارة تعيش بسلام تصون الحقوق والحريات (و) سوق موحدة تقدّم فرصا اقتصادية غير مسبوقة". وفون دير لاين طبيبة وأم لسبعة أبناء وخدمت في بلادها وزيرة للدفاع لست سنوات مليئة بالصعاب. ولفترة طويلة، اعتبرت خليفة محتملة للمستشارة الألمانية أنجلا ميركل. وتنتظر فون دير لاين، البالغة 61 عاما، مهمة صعبة في رئاسة المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذي النافذ الذي يطبق إرادة الدول الأعضاء المنقسمين غالبا. واختيرت السياسية الألمانية للمنصب في يونيو الفائت، إذ حصلت على منصبها بأكثرية ضئيلة في البرلمان الأوروبي بعد أنّ برزت كفائز مفاجئ عقب أسابيع من المفاوضات المغلقة وتوازنات القوى في التكتل. وحازت فون دير لاين على دعم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي يقدر جهودها لتعزيز التعاون في مجال الدفاع بين البلدين، خصوصا في وقت تعمقت فيه الخلافات بين برلين وباريس. لكنّ هذا الرابط مع ماكرون، القيادي المثير للانقسام حاليا في اوروبا، أضرها حين رفض البرلمان الأوروبي في شكل غير مسبوق ثلاثة من مرشحيها للانضمام لفريق عملها في المفوضية، ما عطّل بداية عهدها. تتقن الانجليزية والفرنسية إضافة بالطبع إلى الألمانية. وحازت شهادة من مدرسة لندن للاقتصاد، وهي عوامل جعلتها تحظى بشبكة علاقات في أوروبا وعبر الأطلسي. وهي مدافعة قوية عن انخراط ألماني أكبر على الصعيد الدوليّ واندماج أوروبي أوثق، وروّجت سابقا لفكرة "الولايات المتحدة الأوروبية". وفي بلد تجد فيه المرأة صعوبة في التوفيق بين عملها المهني والاهتمام بعائلتها، لا تتردد فون دير لاين، التي درست الطب، في إبراز دورها العائلي وتتصدر صورها مع أبنائها أغلفة المجلات. وفون دير لاين الوزيرة الوحيدة في حكومة ميركل التي بقيت معها منذ بداية عهدها في العام 2005، فاستلمت أولا وزارة شؤون الأسرة ثم وزارة العمل. وفي العام 2013، باتت فون دير لاين المرأة الأولى التي تتسلم وزارة الدفاع في ألمانيا، وحرصت على أن تترك أثرا عبر عملها على إدخال تغييرات في المؤسسة العسكرية. وخلال توليها وزارة الدفاع، نشرت ألمانيا قواتا في بعثات عبر العالم من أفغانستان إلى مالي، بينما زارت فون دير لاين مرارا الجنود الألمان المنتشرين في أفغانستان والعراق. وواجهت انتقادات مستمرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن ما يعتبره الإنفاق الدفاعي الألماني غير الكافي. ولدت أورسولا غيرترود البرخت في 8 أكتوبر 1958 في بروكسل، حيث كان والدها إرنست البرخت مسؤولًا كبيرًا في المفوضية الأوروبية وعاشت هناك حتى بلغت 13 عاما. وباعتبارها ابنة البرخت، الذي أصبح رئيس وزراء ولاية سكسونيا السفلى لحزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي المحافظ، أمضت سنواتها المراهقة المتأخرة تحت حماية الشرطة في وقت كان المتطرفون اليساريون يستهدفون الشخصيات السياسية والتجارية. وأجبرها التهديد على الانتقال إلى لندن للعيش في شقة عمها تحت اسم مستعار "روز لادسون". وكشخصية محبة للتعليم والدراسة، درست أولا الاقتصاد ثم الطب الذي مارسته في عيادة للنساء. لكنّها قطعت حياتها المهنية لتصبح ربة منزل عندما فاز زوجها أستاذ الطب بمنحة دراسية إلى جامعة "ستانفورد" ذائعة الصيت. وكعدد من السياسيين الألمان الآخرين، دارت شكوك عام 2015 حول إمكان أن تكون اقتبست أفكارا في رسالتها للدكتوراه من مرجع آخر، وهو أمر حساس في ألمانيا تسبب في السابق بسقوط عدد من المسؤولين السياسيين. لكنّها نجت سياسيا بعدما لم يتم إثبات أي سوء سلوك ضدها في القضية. أما سلفها جان كلود يونكر الآتي من لوكسمبورغ، فتعرف عنه صراحته التي تزيد الخشية منه. وسبق له أن قال في مقابلاته الصحافية العديدة إنّه شعر بالخذلان نتيجة الضغوط التي مارسها بعض رؤساء الدول والحكومات بهدف "إخراج" اليونان من منطقة اليورو، ونتيجة نقص التضامن حيال مآسي الهجرة التي عرفتها القارة. ويرفض الإفصاح عن المزيد إذ إنّ "ذلك سيجبرني على الحديث بالسوء عن أشخاص عديدين". غير أنّ كلّ شيء سجّله في دفتر ملاحظات أسماه "موريس الصغير"، واعداً بكتابة مذكراته التي ستغطي فترة 30 عاماً. تولى يونكر (64 عاماً)، خلال تلك المسيرة، وزارة المال في لوكسمبورغ بين 1989 و2009، ثمّ رئاسة الوزراء لمدة 18 عاماً، من 20 يناير 1995 إلى 4 ديسمبر 2013. ويعدّ آخر مهندسي معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1992 والتي لا تزال قائمة إلى اليوم. وفي هذا الصدد، مازح الصحافيين الجمعة، في آخر مؤتمر صحافي له، قائلاً "لطالما قلت إنني واليورو الباقيين الوحيدين من معاهدة ماستريخت. اليوم لم يبق سوى اليورو". ودّع يونكر، خلال مسيرته، العديد من الأصدقاء. وبات الموت يطبع العديد من خواطره. وسبق له أن مرّ قريباً منه في عام 1989 حين دخل في غيبوبة لمدة ثلاثة أسابيع على إثر حادث سيارة خطير. وقد يعدّ يونكر من بين الأكثر جاذبية وإبهاراً بين الذين مروا على رئاسة المفوضية الأوروبية، نظراً بالأخص إلى شخصيته الغريبة والمعقّدة. وكان مقرّباً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فيما أدت انتقاداته لعدد من قرارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى توتر العلاقة سريعاً بينهما. واصطدم بالشعبوي المجري فيكتور اوربان، وطالب بإخراجه من "الحزب الشعبي الأوروبي"، في إشارة إلى عائلتهما السياسية الأوروبية المشتركة. كما أنّه لم يوفّر رئيس الوزارء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون، وهو يرى أنّه السبب وراء انفصال بريطانيا عن التكتل. وأنهى ولايته مرهقاً. لكن، برغم إجرائه عملية جراحية في 12 نوفمبر الماضي، إلا أنّه عاد إلى بروكسل لإتمام الوداع. وقال "أنا سعيد بالمغادرة، أن تكون رئيساً للمفوضية الأوروبية ليست مهمة سهلة". اتصفت ولايته بتتابع الأزمات. منها سبعة أشهر من التوتر مع اليونان، ثم مآسي الهجرة، فبريكست والمواجهة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويعتبر سيباستيان مايار، مدير معهد جاك ديلور، أنّ "مفوضيته كانت سياسية حين اضطلعت بدورها بفطنة في وجه دونالد ترامب بهدف عدم تأجيج الحرب التجارية. وكانت كذلك مع ميشال بارنييه خلال إدارته لبريكست والحفاظ على تماسك الأعضاء ال27".
مشاركة :