يمثل صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، نموذجاً لطراز نادر، وفريد من المثقفين العرب، فهو لا يتوقف عن العطاء، في المجالات كافة، ويعمل على تأسيس البنية التحتية للثقافة، من خلال تشييد المؤسسات الحيوية، التي ترسخ الوعي الفكري والثقافي لأبناء هذه الأمة، لحماية ذاكرتها من الاندثار والتراجع، فأياديه تمتد إلى خارج الشارقة لتقدم الرعاية للإبداع والمبدعين في أكثر من قطر عربي، ومن ذلك التبرع بما يزيد على 21 مليون جنيه مصري، تخصص لصندوق علاج المبدعين والكتاب باتحاد الكتاب المصريين، حيث يعول سموه على مثقفي هذه الأمة كثيراً لتحقيق نهضة عربية شاملة. في كل تحركاته يعكس سموه حساً إنسانياً ووعياً ثقافيا كبيرين، لم نشاهدهما لدى كثيرين في العالم العربي، ممن يمتلكون الثروة والسلطة، وفي كل حالة من تلك الحالات نراه يتمتع بخصال إنسانية عديدة، منها رفضه الإعلان عما يفعله، فبالمصادفة عرفنا في أثناء الاحتفال بافتتاح مبنى اتحاد الآثاريين العرب في القاهرة، أنه تبرع لإقامة بيت للمسنين يكفل الرعاية للفنانين المصريين في أخريات أيامهم، مثلما قدم مبادرة أخرى، بانت بشائرها في الأيام الأخيرة، حين قام سموه بإنشاء عدد من المدارس والمساجد في مسقط رأس كل شهيد من شهداء مذبحة رفح، الذين راحوا ضحايا عدوان غاشم خسيس على يد جماعات الإرهاب في سيناء، بجانب تشييده عدة وحدات سكنية في مناطق عشوائية بالجيزة، ومبنى سكني للطالبات المغتربات في جامعة الأزهر. هذا الدور الاجتماعي الكبير يتوازى مع الدور الثقافي الأكبر، الذي يمارسه سموه، في إبداعه المسرحي والروائي، ومواقفه العملية، انطلاقا من إيمانه بالعروبة، فهو عملياً يكرس تلك القيم العروبية في إبداعه، وفي كل المشروعات الثقافية التي يتبناها، هنا وهناك في أكثر من قطر عربي، إنه يقف وراء كل ما يدعم العروبة، وهذا دور يمتد في مساره منذ أن بدأ الوعي يتبلور لديه، وفي سيرته الذاتية، التي حملت عنوان سرد الذات الكثير من المواقف العروبية المبكرة، التي شهدت تجلياتها الأعلى في تلك المشروعات الثقافية الكبرى، التي تحمل إنجازها عن طيب خاطر، من دون أن ينتظر جزاءً ولا شكوراً. ما يميز صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عن غيره هو أنه لا يكف عن التعلم، فبعد حصوله على بكالوريوس الزراعة والتخصص في الهندسة الزراعية عام 1971، حاز بعد ذلك بسنوات دكتوراه الفلسفة في التاريخ عام 1985 من جامعة اكسيتر في المملكة المتحدة، ثم دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا السياسية للخليج عام 1999 من المملكة المتحدة أيضاً، وبذلك يمتد تخصصه العلمي في مجال الزراعة إلى مجال التاريخ، واتسع عمقه المعرفي ليكتب في التاريخ والجغرافيا وعلم الوثائق، والأدب والفن.. رواية ومسرحاً وشعراً، وكان محور تفكيره مرتبطاً بوطنه وبالإنسان، سواء كان ذلك الإنسان في الشارقة والإمارات، أو الأمة العربية من المحيط على الخليج، أو العالم الإسلامي بمفهومه الشامل. وتكشف عناوين كتبه في كل الأحوال أن الإنسان هو الهاجس الأول لديه، ومن هذه العناوين: أسطورة القرصنة وهو مكتوب باللغة الإنجليزية، وصراعات القوة والتجارة في الخليج وجون مالكوم والقاعدة البريطانية في الخليج، والاحتلال البريطاني لعدن، والقواسم والعدوان البريطاني7971-0281، ومراسلات سلاطين زنجبار، إضافة إلى الأعمال الأدبية:الشيخ الأبيض، والأمير الثائر، وكلمات في المسرح، وعودة هولاكو، والإسكندر الأكبر، والقضية، والنمرود..وغيرها من روايات ومسرحيات. ربما تحتل مصر مساحة أكبر من تفكير سموه، عن غيرها من البلاد العربية، وهذا ما يتضح من حجم المشروعات الثقافية، التي قدمها هدية لشعب عاش بين أبنائه خمس سنوات، من أنضج سنوات عمره، خالط خلالها البسطاء وعرفهم وعرفوه، أحبهم وأحبوه، حتى إنه يستطيع أن يعرف المكان مهما بلغت بساطته وتواضعه، مثلما يعرف أسماء الأشخاص، من حارس البناية التي كان يقطنها إلى العامل البسيط في الكلية التي درس بها. وقد جاء على ذكر بعض الوقائع في سرد الذات وكلها يكشف عن تمكن مصر من قلبه وعقله، ففي سنوات الصبا، عندما كان طالباً في المدرسة بالشارقة، وكان عمره آنذاك حوالي 16 عاماً، كان يتابع أخبار مصر من إذاعة صوت العرب التي يصفها بأنها كانت شرياناً يغذي قلوبنا قبل عقولنا، وانفعل بما يحدث في مصر من عدوان ثلاثي عام 1956، من قبل قوى الاستعمار (إنجلترا وفرنسا وإسرائيل). في حفل تكريمه في جامعة القاهرة أثناء الاحتفال بعيدها المئوي، استكمل ما لم يذكره في سرد الذات قائلاً: عندما عدت إلى البيت دار حوار طويل مع والدي، بعده ضمني إلى صدره وقبلني على وجنتي، لقد رباني على قوة العزيمة والمنطق الوطني، المواقف عديدة ومنها تأييده لإعلان الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958 وقد جاء في كتابه سرد الذات: كانت مظاهر الحماسة للجمهورية العربية المتحدة المتمثلة في وحدتها الثلاثية لا توصف، لم يكن الطلبة والمواطنون وحدهم هم المؤيدين لجمال عبد الناصر، فأعلام الجمهورية العربية المتحدة على سيارات الأجرة وعلى المباني، وعلى العبارات التي تقطع خور دبي ذهاباً وإياباً، وعلى السفن الراسية في خور دبي، وكانت الهتافات من حناجر العجم سائقي سيارات الأجرة ومن حناجر البلوش على العبارات، ومن حناجر الباكستانيين على السفن التجارية، والتي كانت كلها تصرخ ناصر..ناصر، تأكد الإنجليز حينها أن الجميع يؤيد ناصر. يرصد سموه الكثير من مظاهر العروبة التي تشرب قيمها، منذ سنوات صباه، حيث أكد أن المد القومي كان منتشراً آنذاك بين عامة الشعب وطلبة المدارس والتجار والأعيان، بين الشارقة ودبي، لذلك كانت مصر مقصده في نهاية شهر سبتمبر/أيلول 1965 ، للالتحاق بكلية الزراعة جامعة القاهرة، وفي هذا الجزء من سرد الذات الذي يخصصه سموه لما مر به في أيامه الأولى بالكلية، يروي مواقف مر بها مع الطلبة والأساتذة، وفي كل موقف تحتفظ ذاكرته بالأسماء كاملة وبالتفاصيل وبوجوه البشر، وكأن ما يحكيه قد حدث بالأمس. لم يتوقف نشاط صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عند حدود الدراسة والتعلم، فقد كان عضواً في الروابط الطلابية، التي كانت تمارس نشاطاً سياسياً واضحاً، لكن مع بداية امتحانات الفصل الثاني للدراسة في السنة الثانية من كلية الزراعة، وقعت نكسة يونيوحزيران ٧٦٩١، وهنا يقول سموه: كنا قد امتحنا في بعض المواد عندما سمعنا صوت المدافع ظهر يوم الخامس من يونيو/حزيران 7691خرجت إلى الشارع فوجدت الناس تهلل وتكبر، وكان آخرون ينظرون إلى السماء، محاولين مشاهدة بعض الطائرات الحربية، وهي تحلق على ارتفاع عال في يوم مغبر. توجه سموه إلى حي العجوزة للقاء زميلين له في كلية الزراعة، ثم توجهوا جميعاً إلى مبنى الاتحاد الاشتراكي لمقابلة فتحي الديب، الذي كان آنذاك مسؤولاً عن حركات التحرر الوطني، وهناك كان الطلبة العرب يتجمعون، مطالبين بالتطوع للقتال على الجبهة، يقول سموه: لم نكن قد خضعنا لأي دورة عسكرية تدريبية، فلذلك تقرر نقلنا إلى معسكر بني سويف في الهرم، وعلى مدى يومين تعلمنا وتدربنا على السلاح، ثم أتت الأوامر بنقلنا إلى المعسكر المقام في نادي الجزيرة، وبعد يومين آخرين من التدريبات جاءت المفاجأة مساء اليوم التاسع من يونيو 1967: تنحي الرئيس جمال عبد الناصر. يقول سموه أيضاً: خرجت الجماهير الغفيرة تتدافع بعد أن ملأت الشوارع، وغابت شمس ذلك اليوم، ودخلنا في ظلام دامس، حيث أطفئت جميع الأنوار، فلم أستطع أن أتقدم أي خطوة إلى الأمام، لوجود كتل من البشر تملأ الشوارع، فجلست على دكة برصيف شارع الجيزة، من بعد جسر الجلاء، وكانت الناس تمر أمام ناظري. وقد جادت قريحته الشعرية بقصيدة يقول في مطلعها: بلادي فيك سر عجيب/ صاحب الدار فيك غريب من أولج الفجر فيك بالمغيب/ من أذاب الضحك فيك بالنحيب إنه مني ومنك ومن كل قريب/ من عدو أشهر اليوم سهامه. لم ينفصل سموه عن حركة الناس في الشارع ونبضهم، ففي العام الدراسي التالي للنكسة، استثمر أغلب الوقت المتاح له لدراسة النقوش الإسلامية على المساجد والمباني التراثية، وكما يقول: كانت سيارتي لافتة للنظر، تتوقف كثيراً أمام المساجد والمباني التراثية، ينزل منها شاب يتفحص تلك المباني بنظره ومن ثم يدخلها، ومرات يصعد كومة زبالة قد غطت جزءاً من المبنى وكان هناك من يراقب سموه، أحدهم الضابط المكلف بمتابعة نشاط الطلبة العرب، وحدث لقاء وحوار مع المسؤول الأول عن هذا النشاط في مباحث أمن الدولة، الذي سأله: إنت بتعمل إيه؟ فقال سموه: أتعرف على مصر، سأله المسؤول: تتعرف إلى مصر من هذه الأماكن؟ فأجابه سموه: تريدني أن أتعرف عليها من شارع الهرم؟ وانتهى اللقاء بالضحك بين الجميع، ليبدأ بعد ذلك الحديث عما جرى في الفصل الدراسي الأول من سنته الثالثة في كلية الزراعة، خصوصاً عندما زاره شقيقه الشيخ صقر بن محمد القاسمي في القاهرة في شهر رمضان. لما رأى سموه شقيقه متأففا قائلاً: بلد تدخلها بالمقابر والروائح الكريهة كان الشيخ صقر قد مر في طريقه من المطار بمقابر البساتين وكذلك بسور مجرى العيون، حيث المدابغ التي تنبعث منها الروائح الكريهة، وما كان من الشيخ الدكتور سلطان إلا أن أخذه في جولة خارجية ليعرفه إلى القاهرة التي لم يرها في طريقه من المطار إلى بيت أخيه حيث المباني الجميلة والشوارع الحديثة المزينة بالأشجار على أرصفتها. وبعد تناول طعام الإفطار اصطحبه في جولة ليلية إلى حي الحسين لصلاة التراويح في المسجد، وهنا يقول سموه: كانت الساحات والشوارع العامة مليئة بالبشر، تنتظر إقامة صلاة العشاء ومن بعدها التراويح، بعد أداء الصلاة انفض الناس، كأنهم جراد منتشر، كان هناك معرض للكتاب ومسرح مؤقت تعرض عليه الفرق الشعبية فنونها، وقتها كان زكريا الحجاوي قد عاد من الأرياف ليقدم لنا المغنية الشعبية خضرا محمد خضر وفرقة البحيرة برقصاتها على الدفوف، وما هي إلا عدة أيام وإذ بصورة القرافة قد غطتها صور المباني التراثية الجميلة بالقاهرة، وإذا بالروائح الكريهة للمدابغ تزول، وتحل محلها الروائح الزكية لحدائق القاهرة وبساتينها. وفي إطار احتفال جامعة القاهرة بعيدها المئوي كان لا بد من تكريم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فروى جانباً من ذكرياته في القاهرة، مشيراً إلى أن تخرجه في كلية الزراعة أعطاه العلم والثقافة. عاد سموه إلى الشارقة في منتصف أغسطس/آب سنة 1971 بعد أن أكمل دراسته في كلية الزراعة بجامعة القاهرة، لتظل مصر حاضرة أبداً لديه، مصر التي أراد التعرف إليها بشكل مباشر في وجوه البشر، وفي الأماكن، مصر التي رآها وأحبها، في وجه عم إبراهيم حارس البناية التي كان يسكنها في القاهرة، والذي قال عنه في حفل توقيع سرد الذات بالقاهرة: على الرغم من عدم ذكري له في الكتاب إلا أنني ما زلت أتذكره، وقمت بزيارته في غرفتيه اللتين يقطن بهما فوق السطوح.
مشاركة :