بمناسبة انتهاء العام السابع والستين لإعلان قيام دولتهم، اضطلع قطاع واسع من الرموز الفكرية الثقافية والصحفية والأكاديمية في إسرائيل بالتأمل في حال هذه الدولة ومآلها. وفى هذا الإطار، بدا معظم هؤلاء المتأملين المستطلعين كأنهم يقرأون عن شيخ واحد! تشابه المعالجة يتجلى هنا تماماً في شبه الإجماع على أن إسرائيل تعيش راهناً أوضاعاً اقتصادية رغدة، ربما لم تعرفها من قبل، فالدخل الفردى فيها يكاد يعادل مداخيل مواطني دول الاتحاد الأوروبي.. وهناك احتياطي من النقد الأجنبي يبلغ 86 مليار دولار، وهو رقم قياسي بكل المعايير، وليس ثمة أي تضخم مالي، ومعدل البطالة لا يزيد بين يهود الدولة على 5.6 في المئة، وهذا نصف ما هو موجود في أوروبا. وهناك فائض في التصدير مقابل الاستيراد، ودخل قومي يفوق الخمسمئة مليار دولار سنوياً. وتقع إسرائيل في المرتبة التاسعة عشرة في العالم على سلم الرفاه... هذا بعض ما يورده، نحميا شترسلر وجدعون غيشت في صحيفتي هآرتس ويديعوت أحرونوت . أيضاً يتحدثون في إسرائيل عن الاستحواذ على قوة عسكرية جبارة، بالنظر إلى وجود جيش ضخم لديه أحدث أنواع الأسلحة وأكثرها فتكاً. معظم الإسرائيليين يتداولون هذه المعطيات ويباهون بها، لكنهم يتوافقون على حقائق أخرى موجعة، تقض مضاجعهم وتجرح وجداناتهم. ويمكن تلخيص هذه المواجع في عبارة لأحدهم، يقول فيها: إن الاستقلال الإسرائيلي لا يقاس بالناتج القومى ولا بالقبة الحديدية والهاي تك.. إن كل ما نملكه من العوزي (سلاح الأفراد الخفيف) إلى دبابة الميركافاه إلى الطائرات والصواريخ والبوارج والغواصات، تأتي من هناك، من الولايات المتحدة.. وإذا غضبوا هناك سيصطدم كل التايتنك الإسرائيلي بالجليد!. يريد هؤلاء المتوجسون القول إن دولتهم ما زالت تعتمد أمنياً على الراعي الأميركي ورضاه. ويحمل الهاجس الأمني المزعج بعضهم على الاعتقاد بأن وضع اليهود اليوم في أرض إسرائيل لا يختلف عن وضعهم في أوروبا. والسبب واحد، هو أن الصهيونية لم تتمكن من ترتيب أمورها في الشرق الأوسط. ومع أن صاحب هذا الرأي لامس الحقيقة، فإنه في تقديرنا لم يصب كبدها، فالأحوال الأمنية لليهود في إسرائيل أسوأ بكثير، وبما لا يقاس بالنسبة إلى أحوالهم ذاتها في أوروبا، وفي أي مواطن أخرى يوجدون فيها. ما يتعرض له اليهود من حوادث أمنية لسبب أو آخر في غير إسرائيل، يبقى في التحليلين الأول والأخير أموراً طارئة.. ومن المؤكد أنها وقائع لا تنال سوى أعداد قليلة، ثم إن أحداثاً كهذه تقع أيضاً لغير اليهود، ولا يصح وصف أغلبها بالموجات العدائية. الصهاينة وحدهم هم الذين ينسبونها إلى اللاسامية لأغراض معلومة ومرض في قلوبهم. أين هذه الأوضاع من المشهد الأمني لليهود في إسرائيل الذين لم يفارق السلاح أكتافهم، ولا ناموا قريري الأعين منذ إعلان قيامها إلى ساعتنا هذه؟! وهناك ما هو أمرّ وأدهى، وهو أن إسرائيل الدولة، بأسلوب بنائها وسلوكها العدواني وآثامها، مسؤولة عن وضع أمن يهود أوروبا والعالم برمته على صفيح ساخن. والحال كذلك، فإن المشروع الصهيوني الاستيطاني لم ينزع الخوف من صدور اليهود ولا حقق لهم الأمن، لا داخل إسرائيل ولا خارجها. ونزعم أن هذا المشروع ودولته لا يعدان السبب الرئيس في وضعية الرفاه الاقتصادي التي يزعمها البعض بالنسبة إلى اليهود في إسرائيل. فقبل قيام هذه الدولة، كان الأوروبيون اليهود يحظون بمكانات اقتصادية ومالية متميزة في مواطنهم الأم. نود القول إن أغنياء اليهود ومرفهيهم في مراحل ما قبل الدولة، هم على الأرجح أغنياء الدولة ومرفّهيها اليوم. ولعله من الصحيح أيضاً أن المغموسين في الفقر من يهود إسرائيل الآن ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية التي هاجرت إليها واستوطنت فيها وهي فقيرة أصلاً. من الوارد جداً أن وعي بعض الذين لا يريدون خداع ذواتهم من اليهود في إسرائيل بهذه الحقائق، هو الذي ساقهم إلى السؤال عما إذا كانت دولتهم مستقلة حقاً.
مشاركة :