اجتمع الثلاثاء بالعاصمة البريطانية لندن قادة 29 دولة عضو بحلف شمال الأطلسي “الناتو” للاحتفاء بالذكرى الـ70 لتأسيسه وسط خلافات حادة وغير مسبوقة أثارت الكثير من التساؤلات بشأن مستقبل الحلف الذي تعصف به قضايا متراكمة. وطرح قادة الناتو في قمة لندن عدة قضايا على طاولة التفاوض يبقى على رأسها ما أثارته تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي قال فيها إن “الناتو هو في حالة موت دماغي” وما تبع ذلك من تصريحات مضادة قادتها أنقرة ضد باريس التي انتقدت بشدة عملية نبع السلام شمال سوريا. كما طرحت قضايا أخرى شائكة تعارضت فيها مواقف الدول الأعضاء خاصة منها آليات الدعم المالي للحلف وكذلك النمو العسكري لروسيا والصين الدول غير الأعضاء وتأثيرات ذلك على مستقبل دول الغرب. واتفقت الدول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي، الناتو، على أن نص البيان الختامي لقمة الحلف في لندن يشير بصراحة ولأول مرة في تاريخ قمم الحلف، إلى اعتبار القوة العسكرية الصاعدة، الصين، عدوا جديدا محتملا. وجاء في البيان “ندرك أن التأثير المتزايد للصين وسياستها الدولية يمثل فرصا وتحديات في الوقت ذاته، يجب علينا كحلف التعامل معها بشكل مشترك”. وأشار البيان إلى أن دول الناتو تعتبر الجيل الخامس المعياري لشبكات المحمول، الذي تعتبر شركة هواوي الصينية الرائدة فيه، مجالا إشكاليا محتملا، “وندرك ضرورة الرهان على أنظمة آمنة وقادرة على المقاومة”، حسبما جاء في البيان بشأن هذا الموضوع. ولكن البيان لم يستجب لرغبة الولايات المتحدة في أن تتعهد الدول الأعضاء بالحلف بالتخلي عن منتجات شركة هواوي عند إقامة شبكات محمول الجيل الخامس. وكانت دول مثل بريطانيا وألمانيا قد أكدت مرارا أنها لا تشارك الولايات المتحدة انتقاداتها الأساسية لهواوي. وكانت قمة لندن بمثابة المنعرج الحاسم الذي كشف مدى صلابة حلف شمال الأطلسي وتمسك الدول الأعضاء به بوحدتها وسط أجواء متشنجة لاحت أفقها حتى قبل أشهر عديدة من تجمع القادة في العاصمة البريطانية ويتساءل متابعو هذه القمة عن مدى قدرته على إنقاذه من الموت السريري الذي تحدث عنه ماكرون. ويرى مراقبون أن ما سبق قمة لندن من تصريحات واتهامات متبادلة بين الدول الأعضاء قد يوجه حلف شمال الأطلسي وهو في غمرة الاحتفاء بمرور سبعة عقود على تأسيسه نحو التفكك والتشرذم اللذين قد يؤثران مستقبلا على مصالح أهم الدول الأعضاء وفي مقدمتها الولايات المتحدة وكذلك دول الاتحاد الأوروبي. ويحذر هؤلاء من حدوث تفكك هيكلي في بنية الناتو قد تغتنمه قوى أخرى وذلك بالتزامن مع توطّد العلاقات والتحالفات التجارية وحتى العسكرية في دول الشرق خاصة بين بكين وموسكو. انتقد ترامب تصريحات ماكرون بقوله في مؤتمر صحافي بلندن سبق انطلاق القمة “إن ما قاله الرئيس الفرنسي بشأن حلف شمال الأطلسي وبأنه في حالة موت دماغي، كلام سيء ومهين وشديد الخطورة”. وحاول ترامب قلب الطاولة على باريس معتبرا أنه “لا أحد يحتاج للناتو أكثر من فرنسا، فرنسا تعاني من معدل بطالة شديد الارتفاع وضعف في الأداء الاقتصادي ومشكلات مع محتجي السترات الصفراء”. ومن أهم القضايا الأخرى التي شغلت قمة لندن هي التسريبات التي تحدثت عن تحرك واشنطن لخفض مساهمتها في الميزانية الجماعية لحلف الناتو بشكل كبير، مقابل أن يعوض أعضاء آخرون كألمانيا وفرنسا ذلك النقص. وفيما أعلن الأمين العام لـ”الناتو” ينس ستولتنبرغ زيادة الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء إلى 400 مليار دولار أميركي بحلول العام 2024، معلنا رفضه للتشكيك الفرنسي في مستقبل الحلف، جدّد ترامب انتقاداته المتواصلة للتوزيع غير العادل لأعباء الإنفاق الدفاعي داخل حلف شمال الأطلسي. ووجه الرئيس الأميركي مرة أخرى انتقادات لاذعة إلى ألمانيا لإنفاقها نسبة أقل بكثير من اقتصادها على الدفاع مقارنة بالولايات المتحدة. وقال خلال محادثات مع رئيس الحلف ينس ستولتنبرغ، قبل انطلاق قمة الناتو في لندن، “هذا ليس عدلا، ليس من الصواب أن يتم استغلالنا من حلف الناتو، ثم في التجارة، لا يمكننا أن ندع هذا يحدث”. وقدّر العديد من الملاحظين أن أكبر مستفيد من حالة الشد والجذب بين أهم أعضاء حلف الناتو هي تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان الذي حاول خلال القمة وقبلها ضرب عصفورين بحجر واحد، ففي البداية حاول بدوره قلب الطاولة على باريس لمجاراة مواقف واشنطن ولتبرير تدخله في شمال سوريا عبر تجنيد طاقمه للقول إن باريس هي آخر طرف يمكنه الحديث عن التدخل في شؤون البلدان بلا غطاء أممي، ثم محاولته تقديم نصائح تقضي بوجوب تجديد حلف الناتو. وحث أردوغان من جهته الثلاثاء حلف شمال الأطلسي على تحديث نفسه، قائلا “التهديدات التي تواجهنا اليوم تفرض على حلف الناتو تحديث نفسه”. وأضاف “على حلف الناتو تقوية نفسه أكثر في مواجهة التهديدات، حتى لا تضطر الدول الأعضاء للبحث عن بدائل”. ولفت إلى أن بلاده عضو لا يمكن التخلي عنه في الحلف وأنها من أكثر الدول التي قدمت دعما له، مشيرا إلى أن أنقرة تتوقع تضامنا من الناتو معها “في كفاحها ضد الإرهاب”. الأزمة التركية حذر أدروغان من أن “البعض يحاول بنية سيئة أن يقلل أهمية عضويتنا في الناتو”. وتطرق إلى أنه يعتزم لقاء قادة بريطانيا وألمانيا وفرنسا لبحث التطورات في سوريا. وبخصوص مذكرة التفاهم التي تم توقيعها مؤخرا مع ليبيا بشأن التعاون العسكري وترسيم الحدود في البحر المتوسط، قال أردوغان “نؤكد أن الاتفاق المبرم مع ليبيا حق سيادي لتركيا وليبيا ولن نناقش هذا الحق مع أحد”. ولم تتدهور العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وباريس كما هو الحال في الأشهر الأخيرة، حيث دفع ماكرون لوضع حلفاء تركيا في حلف الناتو أمام الأمر الواقع بتوجيه انتقادات شديدة للتدخل التركي في شمال شرق سوريا ضد شركاء فرنسا من الأكراد في التحالف المعادي لتنظيم الدولة الإسلامية. ومع وجود خلافات أخرى أشمل بين الدول الأعضاء، تساءلت جل التقارير الغربية خلال قمة لندن وقبل انعقادها عما إذا كان الحلفاء سينجحون في ترميم أجزاء الوحدة المقطعة في هذا الحلف، في الوقت الذي تهدد فيه هذه الخلافات بإنهاء تحالف كان قادرا على إصلاح ذاته منذ نهاية الحرب الباردة. وفي رده على إمكانية حل الخلاف مع الجانب التركي، قال ينس ستولتنبرغ “إنه ليس من الصواب التشكيك في ضمان الحلف الغربي لأمن الدول الأعضاء فيه، لكنه يعمل على رأب الصدع مع تركيا بخصوص خطط الحلف للدفاع عن دول البلطيق”. وأضاف “لا أتعهد بذلك، ما يمكنني أن أقوله هو أننا نعمل على ذلك. لكن الأمر لا يبدو كما لو أن الحلف ليست لديه خطة للدفاع عن دول البلطيق”. وقال ستولتنبرغ، عقب لقاء جمعه مع دونالد ترامب، إن حلف الأطلسي لا يزال يتمتع بدعم قوي في الولايات المتحدة وأشار إلى “مفارقة كبيرة” مفادها أنه بينما كان أناس يشككون في الترابط عبر الأطلسي، أيّد مواطنون الحلف. ويطرح المتابعون الكثير من الأسئلة عن هذا التحفظ الشديد والمبالغ فيه رغم علم قادة أعضائه أن الجميع يدرك جيّدا عمق المشكلات والخلافات التي قد تشق صفوفه وتجعله يحيد عن مبادئ تأسيسه منذ عام 1949 لضمان الأمن الجماعي لأعضائه، رابطا أمن الولايات المتحدة بأمن حلفائها الأوروبيين في مواجهة الاتحاد السوفييتي. ولعب حلف شمال الأطلسي بصفتيه الدبلوماسية والعسكرية منذ نشأته أدوارا هامة ومحورية في الكثير من القضايا ومنها دفعه لترسيخ الديمقراطيات الحديثة في أوروبا، سواء كانت تلك التي في البلطيق أو البلقان، مما منح تلك الدول مزيدا من الثقة بالنفس ووضعها في نطاق أمني حصين. ويقول المحلل البريطاني في شؤون الدفاع مايكل كلارك “ما من شك أن حلف الناتو هو الحلف الأكبر الذي شهده العالم، لكنه اليوم مع أعضائه الثلاثين قد خسر تقريبا نصف القوة التي كانت لديه عندما كان عدد أعضائه نصف ما هو عليه الآن”. ويقول كلارك إن “الناتو في أزمة على الرغم من حشده للكثير من الإمكانيات”، معتبرا أنه توسع وبأنه نجاح تاريخي في نشر الديمقراطية وحكم القانون. Thumbnail وتتراكم الصعوبات التي تهدد بقاء الحلف موحدا، لكن أكثرها خطورة يصفها المتابعون بأنها متمحورة حول ثلاثة أطراف ولذلك أطلق البعض على قمة لندن تسمية “إجتماع الرؤساء الثلاثة” وذلك في إشارة إلى تباين التصورات والرؤى والمواقف بين ترامب وأردوغان من جهة وماكرون من جهة ثانية. ويؤكد في هذا السياق تقرير صادر عن مجلة “فورين بوليسي” الأميركية لصاحبه سنان أولجون أن حلقة الاختلافات في قمة لندن تدور حول تركيا والولايات المتحدة وفرنسا وهي حلقة تجسّد أحد أهم التحديات التي يواجهها حلف الناتو، ما يدفع للتساؤل عن كيفية محافظة حلف شمال الأطلسي على تماسكه السياسي في بيئة تنتشر فيها التهديدات؟ وأصبحت مهمة ضمان التماسك السياسي داخل تحالف مكلف بالرد على هذه التهديدات أكثر تعقيدا، حيث كان من الأسهل بكثير إدارة السياسة التوافقية لعدد محدود من التهديدات الوجودية المعترف بها مقارنة بعدد أكبر من التحديات الأمنية الأصغر. ويدعو التقرير الأميركي إلى وجوب أن تذكر الحلقة الدبلوماسية مع تركيا قادة الناتو أنهم سيحتاجون في لندن إلى معالجة هذه التباينات في تصور التهديد بشكل بناء. ويقترح أن تكون الصيغة الممكنة هي توسيع نطاق وتواتر مشاورات المادة الرابعة. حيث تسمح المادة الرابعة من معاهدة شمال الأطلسي لأعضاء الناتو بتبادل الآراء حول أي تطورات قد تؤثر على الأمن عبر الأطلسي. ومن المرجح أن يؤكد الفشل في القيام بذلك على أن الناتو مصاب بالشلل بشكل أكبر مما يصوره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وتدفع الكثير من القراءات في المقابل إلى ضرورة أن يدرك حلف شمال الأطلسي خلال قمة لندن وبعدها أن ملامح تشكّلات العالم قد تغيرت بشكل جذري مختلف عن عالم التسعينات الذي حصد فيه الناتو ثمرة كفاحه طوال الحرب الباردة.
مشاركة :