وصف الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين هذا المأزق السياسي الناشب حتى هذه اللحظة لعدم تشكيل ائتلاف مستقر، نتيجة فشل بيني غانتس المنتمي إلى حزب أزرق أبيض ومنافسه نتنياهو من حزب الليكود، بالمأزق الصعب، إذ قال: «هذه أيام صعبة ومظلمة في تاريخ دولة إسرائيل». ومع هذا التعثر السياسي -وكما هو متوقع- فقد وجه المدعي العام الإسرائيلي اتهامات إلى نتنياهو في ثلاث قضايا فساد كبيرة؛ والاتهام الأول يتعلق بالرشوة؛ ويتضمن اتهامات له بالحصول على منافع شخصية من أثرياء ورجال أعمال، بينما الاتهام الثاني يتعلق بمحاولته الاحتيال عبر التوصل إلى اتفاق مع أرنون موزيس؛ ناشر صحيفة «يديعوت أحرونوت»، للحصول على تغطية إيجابية في الصحيفة، مقابل إضعاف صحيفة «يسرائيل هيوم» المنافسة، أما الاتهام الثالث فيتعلق بخيانة الثقة لاتهامه بإعطاء مزايا وتسهيلات مالية للمساهم المسيطر في شركة الاتصالات «بيزك» شاؤول ألوفيتش، مقابل الحصول على تغطية إيجابية في الموقع الإعلامي المملوك لآلوفيتش، «واللا». وقد وصفت هذه الخطوة من قبل المدعي العام بالمتأخرة؛ نظرًا إلى مماطلته كثيرًا حتى توصل إلى قراره وأعلنه، ما يمنح نتنياهو فرصة الفوز في الانتخابات وتشكيل الحكومة، الأمر الذي يؤجل محاكمته لسنوات، ووصف الصحفي الإسرائيلي «تسفي برئيل» هذا القرار بالمتأخر؛ إذ شبهه بـ«الشعور بالتحلل من العقدة النفسية»، معتبرا إياه «يوما حزينا» ويوما صعبا على الديمقراطية الإسرائيلية» وكتب متسائلا ومعنونا لمقاله بـ«إلى متى سيسمح الإسرائيليون لنتنياهو فعل ما يشاء»؟! لقد انتقد «برئيل» قرار المدعي العام كونه جعل نتنياهو حرا طليقا، مع ثبوت هذه الاتهامات؛ لأنه بذلك سيؤثر على الشهود ويواصل التحريض ضد مؤسسات الدولة. والقانون الذي عرف كيف يشوهه، وجهاز القضاء الذي يعتبره عدوًا». وسخر «برئيل» من المدعي العام لأنه «يقرر أنه مسموح لرئيس الحكومة المنتخب أن يبقى في منصبه أيضًا عندما تكون هناك لائحة اتهام معلقة في رقبته، ومسموح له التنكيل بالدولة إلى أن يصدر قرار حاسم، ومسموح له المطالبة بالحصانة». ومن المتوقع في ضوء هذه الاتهامات أن يواجه نتنياهو عقوبة بالسجن أكثر من عشر سنوات إذا ثبت اتهامه بالرشوة، وثلاث سنوات كحد أقصى لتهم الاحتيال وخيانة الثقة، واللافت أن رئيس الوزراء ظل عدوانيا مدافعا عن موقفه، ورافضا قبول التهم الموجهة إليه، متبجحا ومدعيا بأنها موجهة إلى رئيس الوزراء، وكأن منصبه يعصمه من المساءلة والتحقيق، فقال: «نحن نشهد محاولة انقلاب ضد رئيس الوزراء باتهامات مفبركة وتحقيقات ملوثة ومغرضة»، ولأن الأمر جد عسير بالنسبة إليه، فقد جاشت نفسه معبرة عن صعوبة موقفه، ولهذا قال: «ما أمر به في الوقت الحالي ليس سهلا»، وحاليا مازال في منصبه، لأنه غير مرغم على الاستقالة من منصبه بحسب تصريح «مندلبليت»؛ المدعي العام الإسرائيلي. والواضح، أن نتنياهو ليس لديه النية في اتباع المعيار الذي حدده «إيهود أولمرت»- رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق- والذي واجه تهما جنائية، مفضلا التنحي، بدلا من الاستمرار في منصبه؛ فقد ظل نتنياهو مصرا على تشكيل الحكومة في الأسابيع المقبلة، ويقود حزب الليكود إلى انتخابات عامة ثالثة في أقل من عام، ومن هنا ألقت «مزال معلم»- الصحفية في موقع المونيتور- الضوء على خطورة هذا الوضع وهذه الحالة الفريدة لنتنياهو في مواصلة العمل السياسي والإصرار عليه مع وجود اتهامات شبه مؤكدة، فقالت: «كل ما يحدث يعد وضعا غير مألوف، ولم نشهده من قبل في إسرائيل... هذه أول مرة يسعى فيها رئيس الوزراء إلى إعادة انتخابه في منصبه أثناء توجيه تهم بالفساد إليه، ولم يحدث من قبل أن يطلب من النظام القانوني لتحديد إذا ما كان مثل هذا الشخص يمكن حتى تكليفه بتشكيل حكومة جديدة». إنَّ الطبيعة غير المسبوقة لتطور موقف الإدانة والاتهام تجعل من الصعب تحليل تأثيره المحتمل على بقاء نتنياهو؛ كما أنه يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بالنتيجة القانونية التي قد يخضع لها، نظرًا إلى أن هذا يعتمد على قوة الأدلة التي يتم تقديمها إلى القضاء. ويجادل كل من «ناتان ساكس» و«كيفن هاغارد»- من معهد بروكنجز- في أن «الإدانة النهائية فقط -بعد تلقي كل الطعون- لنتنياهو من شأنها أن تمنعه من مزاولة منصبه، والنظام القانوني في إسرائيل بطيء بشكل ملحوظ، خاصة عندما يكون المُدعى عليه جيد التمثيل، عازما على إبطاء عملية التقاضي». وأضافا أن «الإدانة التي تلي الطعن، إذا حدثت، ستكون بعد سنوات»، وهذا يعني أن الأمر سيستغرق وقتا طويلا للغاية قبل خلع نتنياهو بموجب حكم قضائي. ويتفق معظم المحللين على أن رئيس وزراء دولة الاحتلال محاصر بالمخاطر بالفعل، ويوضح «أوليفر هولمز»- مراسل صحيفة الجارديان- أن «الاتهامات جعلت مصير نتنياهو غير محدد في وقت يواجه فيه ضغوطا سياسية شديدة،،، فقد فشل مرتين في تشكيل حكومة جديدة، مع وجود احتمال انتخابات ثالثة تلوح في الأفق الآن، إذ من المتوقع أن تتلقى شعبية نتنياهو ضربة قوية؛ كما بدأت الانقسامات جراء قضايا نتنياهو تظهر في حزب الليكود بالفعل». ومما لا شك فيه، أن الانقسامات الدائرة داخل حزبه تثبت الهزيمة السياسية النهائية لنتنياهو، إذ إن مسؤولي الليكود وأعضاءه والناخبين يميلون إلى أن يكونوا موالين لرئيس الوزراء بشكل دائم صوريا فقط، ولذلك وقف البعض ضده بسبب الاتهامات الموجهة إليه، أضف إلى ذلك أن الدعم الشعبي آخذ في الانحدار المستمر؛ فقد تظاهر عدة آلاف مساء الثلاثاء 26 نوفمبر 2019 في تل أبيب تأييدا له، وجاءت هذه التظاهرة بعد محاولات تحشيد استمرت إلى أكثر من أسبوع لمناصرته، كما لوحظ عدم حضور قياديين وأعضاء كنيست من حزبه، الأمر الذي يفسر أن هناك تذمرًا ضده داخل حزبه وتراجعا بين أنصاره. واستكشاف الآفاق وفق هذه المعطيات يبين لنا أن ثمة مناقشات حول ما إذا كان يجب على حزب الليكود البحث عن مرشح جديد لمنصب رئيس الوزراء أم لا؟ فقد قدم زميله في الحزب «جدعون ساعر»- وهو من منتقدي رئيس الوزراء منذ فترة طويلة- نفسه كبديل محتمل لنتنياهو، وقال في بيان «لا أعتقد أن رئيس الوزراء نتنياهو سينجح في تشكيل حكومة بعد إجراء انتخابات ثالثة أو رابعة أو خامسة أو سادسة»، كما طلب من اللجنة المركزية للحزب إجراء انتخابات داخلية على قيادة الحزب في غضون أسبوعين، وقد يجد الدعم بين مسؤولي الليكود الذين أصبحوا على دراية بالغضب الشعبي المتزايد من نتنياهو رغم أن ناخبي الليكود عمومًا ما زالوا موالين له، إلا أن عامة الشعب غير راضين عنه، ووفق استطلاع للرأي أجراه «معهد إسرائيل للديمقراطية» في أكتوبر فإن 65% من الإسرائيليين يعتقدون أن على نتنياهو أن يستقيل من رئاسة الحزب إذا ما وُجه إليه الاتهام، كما يعتقد البعض داخل الحزب أن على الليكود التبرؤ من نتنياهو لجذب الناخبين غير المنحازين إذا ما تم كسر حالة الجمود السياسية الحالية في الانتخابات المقبلة. على الجانب الآخر، فإن معظم المحللين يشككون في أن مسؤولي الليكود ومؤيديهم سيتخلون عن نتنياهو بأعداد كبيرة بما يكفي لخلعه كرئيس للحزب وبالتالي كرئيس للوزراء، ويدعم هذا الرأي «آرون ميلر»- من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي- يقول: «إذا بدا أن هناك فرصة لأي من التحديات القانونية ضد استمرار نتنياهو كرئيس للوزراء أو أن يتحرك الرأي العام بطريقة أو بأخرى ضده؛ فقد يدفع ذلك الليكود إلى التحرك أيضًا، لكن من ناحية أخرى ومع عدم وجود فرصة لتحديد موعد انتخابات جديدة بعد أسبوعين فقط، فلا يبدو أن إزاحة نتنياهو مُرجحة». ويشاطر «ميلر» هذا الرأي «شالوم ليبنر»- من مركز المجلس الأطلسي- ففي مقابلة مع وكالة بلومبرج قال مستبعدا الانشقاق الجماعي: «من الواضح أنه يبتعد بشكل كبير عن الاحتفاظ بالسلطة»، إلا أن هذا الاتهام «يجري الحديث عنه منذ أمد طويل ولذلك لا أعتقد أننا سنرى انشقاقًا جماعيًا في الليكود». وقد تحول انتباه الكثيرين إلى كيف ينوي نتنياهو تعويض ما طاله نتيجة تلك الاتهامات إذا ما احتفظ بدعم حزبه؟ فقد تساءل «شموئيل روزنر»- من معهد سياسة الشعب اليهودي- في مقال نشر بصحيفة نيويورك تايمز: «إذن ما خطة السيد نتنياهو؟ الفوضى، وإذا لم يتمكن نتنياهو من تشكيل ائتلاف، فستكون هناك انتخابات أخرى بلا أدنى شك، وهكذا دواليك إذا استمر الأمر على تلك الوتيرة إلى أن يضطر عامة الإسرائيليين الذي شعروا بالضجر إلى التصويت والإدلاء بأصواتهم، وقد يستطيع نتنياهو إحراز الفوز، أو أن تتم هزيمته بطريقة تمكن خصومه من تشكيل ائتلاف، أو قد يتم الانتظار حتى صدور حكم قضائي نهائي، قد يستغرق سنوات، لإدانة نتنياهو، أو حتى تطفو على السطح أزمة حادة مع الفلسطينيين، بما يكفي لجعل قرار إدانة نتنياهو بلا قيمة ولا يوجد ما يبرره». وربما السيناريو الأكثر ترجيحًا من الخيارات السابقة التي قد يتبناها نتنياهو هو الدفع باتجاه إجراء انتخابات أخرى، وهذا رجحته «باربرا أوشر»- مراسلة بي بي سي في الشرق الأوسط- وبعض المراقبين، تقول: «لا يوجد أدنى شك بين المراقبين السياسيين بأنه يريد إجراء انتخابات، وذلك لكسب الوقت على الأقل». وعلى الرغم من أن هذا الخيار لا يحظى بشعبية بين عامة الإسرائيليين، الذين باتوا يعانون بعد شعورهم بالتعب العام الجاري بسبب عملية التصويت، إلا أنه يوفر لرئيس الوزراء عددًا من السبل لتجنب الآثار السياسية والقانونية لعزله على حد سواء بسبب اتهاماته. كما أن بإمكان نتنياهو من خلال منع تشكيل الحكومة إلى أن يحظى بالأغلبية في نتائج الانتخابات أن يمنع الكنيست من الانعقاد لبضعة أشهر أخرى على الأقل، ما يجعله متمتعا بالحصانة من قدرة الكنيست على تجريده من منصبه، وعلاوة على ذلك، وكما توضح «ميريام بيرجر»- من صحيفة «واشنطن بوست»: «هناك أيضًا احتمال أنه إذا فاز نتنياهو في انتخابات ثالثة وكان قادرًا على تشكيل ائتلاف حاكم، يمكن أن يجد طريقة لسن التشريعات لحمايته بشكل قانوني من أي اتهامات، أو قد يلجأ نتنياهو إلى خطوة أخيرة وهي إبرام صفقة من شأنها أن تسمح له بالاستقالة مقابل الحصول على الحصانة الكاملة». وإجمالا يمكن القول: إنه على الرغم من التكهنات المتفائلة في جميع أنحاء العالم بمحاكمة نتنياهو، إلا أنه يبدو الآن محصنًا من أي من الآثار القانونية أو السياسية المتعلقة بتوجيه اتهامات بالفساد له، وليس من المتوقع وضع حد لهذه الاتهامات خلال الأشهر أو السنوات القادمة في ظل إصراره على تقديم طعون قوية، ومن الناحية السياسية هناك فرصة لتخلي حزب الليكود عن عضويته فقط، وبشكل مؤقت، في الأسابيع المقبلة لتعزيز فرصه الانتخابية أو قدرته على تشكيل ائتلاف، إلا أن هذا يبقى مجرد احتمال ضئيل، ومع ذلك تظل الظروف السياسية في صالحه، ويبدو من المحتمل إجراء انتخابات ثالثة، والتي قد توفر عنصري الوقت وفرصة الحصول على الأغلبية لصالح نتنياهو. وأخيرا من المرجح أن يظل نتنياهو رئيسًا للوزراء؛ وهذا يعني المزيد من جمود الوضع أمام عامة الإسرائيليين والمزيد من القمع والتهميش للفلسطينيين في كل من قطاع غزة والأراضي المحتلة.
مشاركة :