برحيل الكاتبة والقاصة الإماراتية مريم جمعة فرج تكون الساحة الثقافية الإماراتية قد ودّعت واحدة من أيقوناتها ورموزها الأدبية، ومبدعة أصيلة من الجيل الأول الذي شكّل وساهم في بناء المشهد الكتابي في البدايات، وممن جعلوا النّص السردي تجسيداً لقلق الهوية والأسئلة التي يطرحها الواقع المجتمعي بتشعب قضاياه ومشكلاته وتحدياته مع التطور الهائل الذي شهده بعد مرحلة اكتشاف النفط، وأيضاً لمظاهر الحياة الإنسانية والسلوكات البشرية المتباينة في منظور إبداعي متجدد. ريادة وإجادة «مريم جمعة فرج» لم تكن مجرد كاتبة، فقد بنت تجربتها على أرضية صلبة، كتبت اسمها بحروف من ذهب في سجل المبدعين بعد رحلة كتابية مضنية ودؤوبة في عالم تأكيد الذات والهوية، فقد كانت من أوائل الذين اشتغلوا بعمق بفن القصة القصيرة وتواصلوا معها عبر منجزات كتابية تنتمي للبيئة الشعبية بشكل خاص والمقدرة على استخدام الرموز التراثية بمهارة عالية، وتطوير إيقاع الصورة الفنية الوصفية والثوب السردي بشكل عام، مع تفرد وتركيز في معظم قصصها القصيرة على «البيئة النفسية» داخل الشخصيات، وهو ما يسجّل لها في منظومة التجديد في مجال الكتابة القصصية، على نحو مجموعتها الشهيرة «فيروز»، الصادرة عن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات 1988. في هذه المجموعة التي لفتت الاهتمام لحظة صدورها وحظيت باهتمام نقدي ملموس من الوسط الثقافي، عديد الإشارات التي توحي للقارئ بأن الكاتبة تسرد البيئة المحلّية، وتطغى فيها الملامح النفسية على ملامح البيئة الاجتماعية الموصوفة بعلاقات واضحة، فالشخصيات في قصص هذه المجموعة يطحنها الألم والقهر، ويتم تصويره بطريقة رومانسية شعرية حالمة، جعلت من الإيقاع العام مثيراً للانتباه بالنسبة لانضباطية الزمان والمكان. وفي هذا السياق، أشار الدكتور ثابت ملكاوي في كتابه «الرواية والقصة القصيرة في الإمارات نشأة وتطور» الصادر عن منشورات المجمع الثقافي بأبوظبي، إلى مجموعة فيروز، بقوله: (في قصص فيروز نقرأ الشخصيات تعيش حالة الهذيان والحلم واجترار الأفكار، محلقة في مدارات رومانسية رافضة للواقع، ومتمردة عليه، والواقع نستشف ملامحه من خلال الحلم، أو أن الحلم هو البديل الموضوعي للواقع). أما الأمر الثاني الذي يجعل من مريم جمعة فرج كاتبة ذات حضور مؤثر لجانب «الجودة الفنية»، فهي في البدء واحدة من العلامات البارزة في مثل هذا النوع من الكتابة، لا سيما في مرحلة البدايات والتأسيس، ونجاحها في صياغة قصة قصيرة معاصرة شمولية، يطغى فيها تسيدّ المرأة المحلّية في السرد، لتعميم بعض القيم الاجتماعية، وثمة أمر لافت في كتاباتها هو تركيزها الشديد على الظواهر الاجتماعية الطارئة على المجتمع المحلي مثل رصدها لحياة العمال المغتربين الهنود في الدولة، واهتماماتهم، وعاداتهم وتقاليدهم ومدى انعكاس ذلك على الواقع، في إطار تصوري مستشرف. «ماء».. القَصّ العالي أصدرت مريم جمعة فرج عام 1994 عن دار رواق للنشر والتوزيع بدبي، مجموعة قصصية مهمة بعنوان «ماء»، عدّها النقاد واحدة من الأعمال الأدبية الناضجة فكراً وسرداً، فقد حاولت فيها مزج وتحويل المشاهد من دلالات الأماكن إلى لحظات زمنية. قصص موحية وذات دلالات إنسانية تبحث عن الحرية والانعتاق من قهر الإنسان في مجتمع مغلق، حاولت فيها الغوص في عمق الذات البشرية، حيث لا تكتفي بالوصف، بل تستحضر ذلك الغموض السحري لحث المتلقي على الاستمتاع والبحث في المفردات واللغة والحدث، ولهذا يمكن القول إن كاتبتنا الراحلة كانت الرقم الصعب في الكتابة التي ارتقت عندها إلى مستوى عالي القيمة والفكر، كتابة حداثية بمنظور محلّي. ترجمة الاستثناء «مريم جمعة فرج» قدّمت عام 2003 للمشهد الثقافي في الإمارات، منجزاً نوعياً، تمثل في مجال الترجمة، تحت مظلة مشروع حمل اسم «تجارب من الإبداع النسائي العالمي» وجمعته في كتاب بعنوان «امرأة استثنائية»، وكتبت عنه في تقديمها له: «يرتبط العمل في هذا الكتاب ببعدين: الأول هو الترجمة كأداة في حد ذاتها، والترجمة كأداة تحتمل ثنائية الإبداع وإعادة صياغة الإبداع من منظور يتصل بالكشف عن جوهره الأساسي. والثاني يهدف إلى تسليط الضوء على جزئية مهمة في سياق الإبداع النسائي تتعلق بالمرأة والكتابة من حيث الخصوصية الشخصية والخصوصية الشاملة ذات الصلة بعلاقتها بما يمكن أن نسمّيه «أدب الأقليات»، والحديث في هذا الشأن واسع ومتشابك، لكن ما يمكن قوله إن كاتبتنا (رحمها الله) كانت مشغولة ومنحازة في سردها إلى الطبقات المسحوقة والفقيرة، ومعنية تماما بقضايا إنسانية تنم عن اهتمامها بالبعد الإنساني في أعمالها، وفي ذلك تقول: أحاول أن أكون موضوعية حين أكتب، لكن يظهر على سطح الكتابة شيء مني، مع العلم بأن هذا لا أقصده في كتاباتي، فحينما أستحضر الشخصيات في أعمالي، تكون موجودة في الواقع، ثم إنها شريحة مهمة في المجتمعات الخليجية منذ مرحلة مبكرة وهي الشريحة العاملة في مرحلة ما قبل النفط وحتى قبل ذلك، وأنا أفتخر بأني جزء منها وأنتمي إليها، وهي جزء من الحراك المجتمعي الإماراتي والخليجي. والحمد لله على أن مجتمعاتنا لا تفرق بين الناس وتفرزهم على ألوانهم أو أجناسهم أو مللهم كما حدث أثناء التمييز العنصري في الغرب. الريادة لم تكن يوماً مجسدة في عالم الكتابة والإبداع، فلها في الواقع جوانبها المتعددة، وهذا ينطبق على الوجه الآخر للمبدعة الراحلة التي انخرطت في بداية حياتها في النشاط النسائي الثقافي، حيث صاغت إلى جانب مجموعة من الكتاب والشخصيات ذات الصلة بالعمل الاجتماعي والإنساني المشهد الثقافي الإماراتي. رصانة وانفتاح وفي جوانب أخرى من مسيرتها، كانت تتخطى على الدوام مسألة الأجيال في موضوعة الإبداع، وقالت في هذا السياق: «في الواقع نحن نضيع وقتنا في مسألة أن جيل الثمانينيات أفضل وأكثر فاعلية وإنتاجية من جيل الكتاب الشباب اليوم، وأعتقد أنه لا ينبغي لنا النظر إلى الموضوع بهذه الطريقة، ففي مرحلة الثمانينيات عاش الناس في ظل ظروف مختلفة مقارنة بهذه التي نعيشها اليوم. العالم نفسه كان يسير على نمط ووتيرة مختلفة، أما الجيل الشاب فهو يعيش أدواته بما تمليه عليه المرحلة الآن، وهناك تنوع جيلي يغني الأدب في الإمارات، لكننا في الواقع نحتاج إلى عقلنة في التعامل مع هذه الأصوات الشابة، الحقيقة أن المقارنة ظالمة، خصوصاً وأن الأقلام الأدبية متفاوتة في المستوى، بصرف النظر عن الزمان والمكان». تبقى «مريم جمعة فرج» كاتبة رصينة ومعبرة عن مرحلتها، ومتجددة في أسلوبها ومثابرتها، ومثالاً للفن الراقي في مجالات الأدب وعلى الخصوص القصة، حيث أنتجت العديد من الأعمال والكتابات الرائعة التي سوف تظل مثالاً للإبداع المتقدم الذي سجلته المرأة في الإماراتية في مختلف أوجه النشاط الفكري والإعلامي.
مشاركة :