أسفرت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعد الأولى منذ توليه مهام منصبه قبل نحو 3 أشهر، أسفرت عن الموافقة على تبادل السفراء لأول مرة منذ ٢٣ عاما، مما يعطى مؤشرا إيجابيا نحو وجود تحول جذري في العلاقات السودانية الأمريكية قد تمتد أثاره إلى أفق أوسع مستقبلا، لتشمل رفع اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب، ويضع نقطة النهاية في العلاقات المتأزمة بين الخرطوم وواشنطن. تاريخ العلاقات الأمريكية السودانية على مدى العقود الطويلة الماضية يشهد بوجود توتر وتأزم من حين لآخر في نواحيها السياسية والاقتصادية، حيث كانت الولايات المتحدة تنتقد دوما انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، فيما كان المسئولون في الحكومة السودانية ينتقدون تدخل أمريكا في الشئون الداخلية للبلاد. قبل عام، وبالتحديد في شهر نوفمبر ٢٠١٨، بدأ وزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد ونائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان محادثات في واشنطن حول تطبيع العلاقات الثنائية وإزالة السودان من (قائمة الإرهاب) حيث يمثل هذا البند العقبة الرئيسية أمام التطبيع الكامل للعلاقات. وحددت الولايات المتحدة، (6) شروط أساسية يجب على السودان الوفاء بها للبدء في إلغاء تسميته (كدولة راعية للإرهاب)، وشملت تلك الشروط توسيع التعاون في مكافحة الإرهاب، وتعزيز حماية حقوق الإنسان وممارساتها، بما في ذلك حرية الدين والصحافة، وتحسين وصول المساعدات الإنسانية، ووقف الأعمال العدائية الداخلية، وخلق بيئة أكثر ملاءمة للتقدم في عملية السلام في السودان، واتخاذ خطوات لمعالجة بعض الأعمال الإرهابية البارزة، والالتزام بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بكوريا الشمالية. وكانت الولايات المتحدة قد وضعت السودان على قوائم الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1993 في عهد الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، بدعوى دعمه للجماعات الأنشطة الإرهابية التي تشكل خطرا على المصالح الأمريكية، خاصة بعد استضافته لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن على الأراضي السودانية في منتصف التسعينات من القرن الماضي. إلا أن العلاقات السودانية الأمريكية شهدت بعض التحسن في أواخر عهد البشير، في إطار التقدم الذي أحرزته الخرطوم في مكافحة الإرهاب، والسماح بوصول إمدادات الإغاثة الإنسانية في المناطق المتضررة من الصراع في السودان، وهو ما أدى لرفع جزئي للعقوبات الاقتصادية على السودان، والتعهد بالتفكير في مسألة رفع اسمه من قوائم الإرهاب الأمريكية. ثم جاءت التطورات السياسية الأخيرة في السودان التي انتهت بالإطاحة بحكم البشير، بعد احتجاجات شعبية واسعة ضده، وتولى حكومة جديدة للسلطة في البلاد، لتدشين مرحلة جديدة في العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، وعلى إثر ذلك تبنى مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا (قبل تشكيل الحكومة السودانية الحالية)، أكد فيه "أنه حتى يتم الانتقال إلى حكومة مدنية ذات مصداقية وتعكس تطلعات الشعب السوداني، فإن عملية النظر في إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات المتبقية على السودان، أو تطبيع العلاقات مع الحكومة السودانية، ستظل معلقة". وفي ضوء هذا الموقف فإن الخرطوم ترى أن الوقت قد حان كى يفي الكونجرس الأمريكي بما تعهد به فيما يخص هذه المسائل، لا سيما بعدما حظيت الحكومة السودانية الجديدة بمباركة واشنطن التي اعترفت بشرعية عملية الانتقال الديمقراطي الحالية في السودان. العلاقات المبكرة بين واشنطن والخرطوم بدأت مع ظهور أول اهتمام أمريكي بالسودان، حينما قام المستثمر الأمريكي لي هنت بالمساهمة في تأسيس شركة السودان للزراعة التجريبية، التي ظهرت في أوائل سنوات الحكم الثنائي وذلك في عام 1904، والتي تحولت فيما بعد إلي الشركة الزراعية السودانية. وجاءت هذه المساهمة بعد أن كتب جون لانك قنصل الولايات المتحدة في القاهرة إلى ديفيد هيل مساعد وزير الخارجية الأمريكي في 13 أغسطس عام 1902، قائلا: "تسعى حكومة السودان بشدة إلي تطوير الموارد الزراعية في البلاد على أسس أكثر ليبرالية لتشجيع رأس المال والهجرة، وهناك احتياج للأدوات والآليات الزراعية، عليكم القدوم باكرا لتأمين موقع راسخ في أسواق البلاد”، وتأكد هذا الاهتمام الأمريكي مع زيارة الرئيس روزفلت للسودان في عام 1910. تزايد التواصل بين البلدين مع اقتراب حصول السودان على استقلاله، حيث أرسلت الولايات المتحدة أول مبعوث لها في السودان، للإشراف على أول انتخابات في السودان في إطار استعدادها آنذاك لوراثة النفوذ البريطاني في المنطقة، وكان الاختبار الثاني للعلاقات السودانية الأمريكية هو (مشروع المعونة الأمريكية) والذي تقدمت به الحكومة الأمريكية إلى الحكومة السودانية، والذي قوبل بمعارضة شديدة كادت أن تطيح وقتها بائتلاف الحزبين الحاكمين (الأمة والشعب الديمقراطي) وذلك في مطلع عام 1958 قبل انقلاب إبراهيم عبود بعدة شهور. وبدأ الاهتمام الأمريكي يتعاظم تجاه السودان بعد انقلاب 17 نوفمبر عام 1958 على يد الرئيس الأسبق إبراهيم عبود، فقبلت حكومة عبود المعونة الأمريكية وزار عبود الولايات المتحدة وكل مرحبا به، ولكن بعد ثورة أكتوبر تدهورت العلاقة مع الولايات المتحدة حتى قطعت نهائيا بعد حرب عام 1967. في بدايات انقلاب مايو عام 1969 وحتى عام 1971 كانت علاقات النظام مع الإدارة الأمريكية سيئة بسبب انحياز النظام للمعسكر الشرقي، واعترافه بألمانيا الشرقية، وتبنيه لسياسات المصادرة، والتأميم وانحيازه للتيار العربي الاشتراكي المعادي للرأسمالية والإمبريالية، ولكن بعد فشل المحاولة الانقلابية الشيوعية فى عام 1971 غير النظام توجهه نحو الولايات المتحدة فعاود الأمريكان اهتمامهم بالسودان. وعززت الولايات المتحدة في هذه الفترة من وجودها السياسي والأمني والاقتصادي في السودان. وقد حصل السودان حينها على دعم أمريكي كان الأكبر في أفريقيا، وكان من نتائج توطيد هذه العلاقات دخول شركة شيفرون الأمريكية للاستثمار في مجال النفط في السودان، إضافة إلى تدفق المعونات الأمريكية وصندوق النقد الدولي على السودان في تلك الفترة. وظلت العلاقات السودانية الأمريكية جيدة في عهد الرئيس السوداني السابق جعفر نميري رغم مقتل السفير الأمريكي ونائبه بالخرطوم عام 1973 على يد جماعة أيلول الأسود، وعلى الرغم من غياب الديمقراطية التعددية، وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان، هذا يدلل على أن كل ذلك لم يكن من محددات العلاقة. ووصلت العلاقات السودانية الأمريكية أوج تحسنها، حينما شارك الرئيس نميري في عملية نقل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل، فزادت المعونات الاقتصادية للسودان حتى بلغت في عام 1985 أكثر من أربعمائة مليون دولار، فيما بلغت المعونات العسكرية خلال 3 سنوات ما بين (1982 -1985) أكثر من 300 مليون دولار. ثم ظهرت جفوة في العلاقات بعد إعلان نميري عن تطبيق قوانين إسلامية في عام 1983، وانسحبت خلال هذا الوقت شركة شيفرون من الاستثمار في النفط السوداني، وبعد تولى الحكومة الديمقراطية تدنت المعونات الأمريكية إلى أقل من 25 مليون دولار في عام 1985. واعترف نورمان أندرسون، السفير الأمريكي الأسبق في الخرطوم بأن الحكومة الأمريكية خفضت مساعداتها بشدة للحكومة الديمقراطية ولم يخف السفير خيبة أمله في الصادق المهدي وحكومته، وفي عام 1988، تم تطبيق أول عقوبات أمريكية على السودان نتيجة لتراكم المتأخرات وعدم سداد الديون وكانت في شكل حرمان من المعونة. ورغم أن الولايات المتحدة جمدت كل المساعدات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية الخارجية للسودان في عام 1990، استنادا على قانون يمنع الاستيلاء على السلطة بواسطة انقلاب عسكري، إلا أن سياستها تجاه السودان ظلت متأرجحة ما بين الاحتواء والمواجهة، وتغير الموقف في عام 1993، وتم إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتلقائيا حرمت البلاد من كل برامج المعونة الأمريكية الزراعية، وبرامج دعم السلام، القروض التفضيلية وغيرها. ووقع السودان تحت طائلة حظر اقتصادي وتجاري أمريكي منذ عام 1997 لعلاقته المزعومة بشبكات الإرهاب، وبقى على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، وكانت أول حزمة من العقوبات حرمانها من التجارة والاستثمار الأمريكيين مع السودان، وجمدت أرصدة الحكومة السودانية في البنوك الأمريكية، وفي عام 2006، فرضت أوامر تنفيذية حزمة إضافية من العقوبات بسبب النزاع في دارفور. وفي عام ٢٠١٧ صدر قرار وزارة الخزانة الأمريكية، برفع العقوبات عن السودان بعد 6 أشهر من تاريخ صدوره، ونص القرار الأمريكي برفع الحظر، لمدة عام، على أن يجدد الإلغاء سنويا بعد مراجعة من الحكومة الأمريكية لالتزام السودان بالتعاون في مكافحة التطرف الإسلامي والهجرة غير الشرعية، ومواصلة الدور البناء في قضايا دارفور وجنوب السودان.
مشاركة :