أثار تبنّي البرلمان الفرنسي، الأربعاء، اقتراحا تقدّم به النائب عن حزب “الجمهورية إلى الأمام” الحاكم، سيلفان ميار، يساوي بين “معاداة الصهيونية ومعاداة السامية”، جدلا كبيرا داخل الأوساط السياسية والثقافية الفرنسية. ولاقى المقترح قبول أغلبية ضعيفة، بعد جدل كبير حوله في البرلمان وخارجه، مع تخوف معارضيه من أن يتم استغلاله لتكميم أفواه منتقدي السياسات الإسرائيلية، إذ صوّت 154 نائبا لمصلحة النص الجديد فيما صوّت ضده 72 نائبا، وفضّل أغلب نواب الجمعية الوطنية، التي تضم 577 نائبا، التزام الصمت لحساسية الموضوع فارتأوا عدم إبداء أيّ رأي بخصوصه. وامتدت الاختلافات حول النص حتى بين مكوّنات الأغلبية نفسها، حيث تباينت الآراء داخل حزب الجمهورية إلى الإمام الحاكم، ظهر ذلك من خلال عدد نوابه المصوّتين لمصلحة النص، الذي لم يتجاوز 84 من أصل 303 في الجمعية الوطنية، حيث تغيّب عدد كبير من نوابه عن جلسة التصويت. وتثير مسألة التصدي لظاهرة العداء للسامية بتوسيعها لتشمل في ذات الوقت معاداة الصهيونية في فرنسا، حالة نقاش كبير في المواءمة بين مسألة الدفاع عن اليهود وانتقاد إسرائيل. ندوب مخجلة يحمل تاريخ فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية ندوبا مخجلة في هذا المجال جرّاء تعامل حكومة فيشي آنذاك مع النازية الألمانية ومجاراتها في التورّط بعمليات تصفية جماعية لليهود في فرنسا، إلا أن الجدل بقي منقسماً في هذا البلد حول الموقف من إسرائيل والصهيونية والعداء للسامية. وكان قرار صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل الرقم 3379، اعتمد في 10 نوفمبر 1975 بتصويت 72 دولة بنعم، مقابل 35 بلا (وامتناع 32 عضوًا عن التصويت). ويحدد القرار “أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجيا الصهيونية التي حسب القرار، تشكّل خطرا على الأمن والسلم العالميين. وكثيرا ما يستشهد بهذا القرار في المناقشات المتعلقة بالصهيونية والعنصرية. وقد جعلت إسرائيل من إلغاء القرار 3379 شرطًا لمشاركتها في مؤتمر مدريد 1991، فتم بالفعل الإلغاء بموجب القرار 46/86 الصادر بتاريخ 16 ديسمبر 1991. غير أن الجدل الحالي في فرنسا يدور حول اعتبار أي معاد للصهيونية هو معاد للسامية ويخضع لأحكام القوانين في هذا الصدد. ويسعى أصحاب هذا القانون للإدلاء بدلو هو من صلب النقاش الداخلي الذي يطفو كلّما تعرّض اليهود لاعتداءات تطالهم أو تطال رموزهم ومؤسساتهم ومقابرهم. وكانت شاشات التلفزيون قد نقلت مباشرة تعرّض الفيلسوف الفرنسي اليهودي آلان فيلكنكروت لتهجم مجموعة من “السترات الصفراء” في باريس وتوجهها إليه بالشتائم بسبب يهوديته. مقترح الحزب الحاكم، لاقى قبول أغلبية ضعيفة، بعد جدل كبير حوله في البرلمان وخارجه، مع تخوف معارضيه من أن يتم استغلاله وأكد المفكر الفرنسي في حوار صحافي لإحدى وسائل الإعلام المحلية أنه شعر بالخوف بعد تلقيه مجموعة من العبارات العنصرية الجارحة ضده، موضحا أنه لولا وجود قوات الأمن الفرنسي كان سيموت خوفا من تلك الاعتداءات، قائلًا “أنا لست بطلًا ولا ضحية”. وأثار هذا الحادث موجة من التنديدات ومن رسائل الدعم للمفكر، أكثرها استنكر الطابع المعادي للسامية للإهانات. ومن بين المنددين، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقال ماكرون أمام ممثلين للمؤسسات اليهودية في باريس في فبراير 2019 إن “فرنسا ستطبّق تعريفا لمعاداة السامية تبنّاه التحالف الدولي لذكرى المحرقة”، يشمل معاداة الصهيونية، مشيراً إلى أن بلاده كانت قد وافقت مع شركائها الأوروبيين على هذا التعريف. وتدفع إسرائيل جاهدة إلى توسيع معاداة السامية لتشمل معاداة الصهيونية داخل البلدان الأوروبية، خاصة بعد أن نجحت في دفع ألمانيا والولايات المتحدة في صياغة تعريفات تناسب رؤيتها، تمكّنها من إيجاد تبريرات لأفعالها. وتعمد إلى توجيه نقد عنيف لكل من يعترض على سياساتها، حيث واجه جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني اتهامات بالسماح بثقافة معاداة السامية، بعد نقد توجّه به بعض أعضاء حزبه للممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وتعاطف معهم. وإثر ذلك لم تتوقف الاتهامات الموجهة إليه سواء من المسؤولين الإسرائيليين أو البريطانيين الداعمين لإسرائيل، حيث قال كبير الحاخامات في بريطانيا الشهر الماضي إن كوربين “لا يليق بالمنصب الرفيع” بسبب تعامله مع معاداة السامية داخل حزبه. ويستنتج المراقب للشأن الفرنسي مدى حضور مسألة العداء للسامية في يوميات البلد. فالبرامج التربوية حريصة بدقة على تجريم الحقبة النازية، وعلى تجريم العداء للسامية بصفتها امتدادا لفترة ملعونة من تاريخ البلد. وبقي الموقف العام من اليمين المتطرف بقيادة حزب الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبن سلبيا بسبب استعارة هذا الحزب شعارات تعود للحقبة النازية، وبسبب عدم وضوح هذا التيار في الموقف من مسألة معاداة السامية والموقف من اليهود. وقد ورثت مارين لوبن السمعة التي التصقت بوالدها حين تزعمت حزب الجبهة الوطنية. وعلى الرغم من أن الابنة انقلبت على والدها وأبعدته عن الحزب الذي أسسه، وعلى الرغم من أنها عمدت إلى تغيير اسم الحزب لتبديد الصورة النمطية اليمينية المتطرفة التي التصقت بالحزب، إلا أن معاداة السامية ظلت التهمة الدائمة ضد لوبن والتيارات القريبة من حزبها. لا يحتكر اليمين المتطرف تهمة معاداة السامية، بل إن في جذور المجتمع الفرنسي، كما المجتمع الغربي عامة، معاداة مستترة للسامية. وقد يكون الأمر عائدا إلى تقاليد مسيحية قديمة معادية تاريخيا لليهودية، وأن أمرا كهذا استندت على أساسه العقائد النازية التي لم تلق معارضة شرسة من قبل الفاتيكان آنذاك، ناهيك عن تورط بعض الكنائس في إعطاء شرعية دينية لها. وعلى امتداد فترات، كانت العلاقة بين الديانة اليهودية والمسيحية تعتبر معقدة ومتشعبة، فالمسيحية التي نشأت وأخذت مفاهيمها الأولية من بيئة يهودية صرفة؛ ظلت لوقت طويل تتهم اليهود بصلب اليسوع واضطهاد تلاميذه في القرون المسيحية الأولى مستندين بذلك على قول اليهود أثناء محاكمة اليسوع “دمه علينا وعلى أولادنا”. وتطور موقف المسيحية تجاه اليهود في السنوات الأولى للمسيحية وتم تعزيزها من خلال الاعتقاد بأن اليهود قد قتلوا اليسوع، وازدادت إجراءات معادية لليهود على مدى القرون التالية. تضمّنت الإجراءات التي اتخذها المسيحيون ضد اليهود أعمال النبذ والإذلال والعنف والقتل الذي بلغ ذروته خلال الهولوكوست. غير أن مراجعة عميقة أجراها الفاتيكان على رواياته الدينية، دفعته إلى تحديث نصوصه وذلك بتبرئة اليهود من دم المسيح، ومن ثمة “طهر” صفوفه من دعاة وأطروحات تعادي اليهود في قراءتها الدينية. أسيرة إرث تاريخي لم تستطع فرنسا تجاوز هذه الإشكالية، وبقيت أحزابها السياسية أسيرة الحمولة التاريخية للمسألة، وبقي الموقف من إسرائيل متأثرا بالمسؤولية التي تتحملها فرنسا تاريخيا لجهة تورط إحدى حكوماتها تحت الاحتلال النازي بعمليات اعتقال جماعي لليهود وإرسالهم نحو معسكرات الإبادة. وتطفو معاداة السامية بأشكال تتجاوز الموقف التبسيطي لليمين المتطرف والبروباغندا المضادة. ولطالما شهدت البرامج التلفزيونية سجالات ضد أطروحات يقدمها مثقفون فرنسيون يهود، مثل برنار هنري ليفي وآلان فيلكنكروت، اللذين يدافعان عن إسرائيل والصهيونية، بما يعكس حجم المعاندة الثقافية الفرنسية لفكرة الاستسلام للرواية اليهودية للتاريخ. وقد أدانت هذه المجموعة من الأكاديميين اليهود ما وصفته بأنه “خلط بين العداء للسامية والعداء للصهيونية”، معتبرة أن الأمر ينال من ذاكرة ضحايا الهولوكست. واعتبرت المجموعة أن قوانين من هذا النوع تهدف إلى إسكات الأصوات المنتقدة لإسرائيل داخل المجتمع الإسرائيلي. بالمقابل يعتبر المدافعون عن القانون أن مشروع القانون مستوحى من التعريف الذي اعتمده “التحالف الدولي من أجل ذاكرة الهولوكست” والذي اعتمدته دول كثيرة. ويضيف هؤلاء أن هذا التعريف لا يمنع انتقاد دولة إسرائيل، لكنه يوفر أداة جديدة لكشف الكراهية ضد اليهود. على أن هذا النقاش في فرنسا يكشف عن حالة التوتر داخل القراءة الدولية عامة، لاسيما لدى الدول الغربية، للحالة اليهودية في العالم، كما حالة الارتباك في مواءمة مسألة الدفاع عن اليهود ومسألة انتقاد إسرائيل. ويرى مراقبون أن منطق الدولة في فرنسا عاد ليطغى على المنطق الانفعالي، وأن التحفظ الذي ظهر لدعم القانون أمام البرلمان، يكشف هذا المنحى. ويرى هؤلاء أن فرنسا، كما كل دول العالم، التي أدانت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس والمستوطنات والجولان، ستبقى محافظة على موقف منتقد لإسرائيل ولا يمكنها إلا التمهّل في سنّ أيّ قوانين قد تحدّ من الأمر بحيث يصبح عرضة لاجتهادات وملاحقات قانونية غير منطقية.
مشاركة :