فقد المشهد الثقافي فقرة رئيسه من هيكله الفعلي، ودينمو حرّك أمواج العمل الثقافي بالمملكة العربية السعودية، وأحدث فيه نقلة نوعية، وأحاطه بالعناية والرعاية، وكرّس كل ما يمتلك من طاقة وخبرة للإنتاج الثقافي و تلقي الإبداع الشبابي بالتوثيق والنقد من خلال التأسيس لكثير من المجلات الأدبية، والتنوير من خلال تفعيل دور النقد والتأسيس لمجلات نقدية تحتفي بهذا الفن الرديف والملازم للإبداع والإنتاج الأدبي، وتحويل العمل الثقافي إلى إنتاج فعلي. فقرة رئيسة في هيكل المشهد الثقافي السعودي تجسّدت في الراحل الفقيد عبد الفتاح أبو مدين الذي تفتحت عينا وجوده على نور الحياة في قرية (البِرْكة) بمدينة بنغازي الليبية عام ١٩٢٦م ، حيث ترعرعت هناك أولى سنوات الطفولة، فدَرَج و تعلم أبجديات القراءة والكتابة في الكُتّاب. عبر (مفتاح محمد عبدالله أبو مدين) الحدود الليبية مسافراً إلى مدينة جدة مع والدته من أجل العيش مع خاله (مصطفى بدر) الذي كان يعمل فيها، ثم انتقلوا جميعاً إلى المدينة المنورة، وهناك فُجع الصبي الصغير بوفاة أمه بعد شهر واحد من استقرارهم بالمدينة المنورة، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، ولم يُكمل عبد الفتاح دراسته، واضطر إلى العمل بسبب ضيق الحال، وليُساعد خاله الذي تقاعد عن العمل فأصبح أبو مدين مسؤولا عن إعالته. ومن المدينة المنورة عاد إلى جدة، لتبدأ قصة كفاح كبرى لهذا الفتى الذي تعوّد مواجهة الصعاب بكل شجاعة وعزيمة وإصرار. (من كان يظن أن «الفتى مفتاح»، الذي فقد أباه بائع الحطب والفحم وهو في السابعة من عمره، وفقد أشقاءه التسعة، ولم يبق له إلا أختان ووالدة مكلومة، ليضطر إلى العمل صبياً في البناء يخلط العجين، ثم في مقهى يُباشر الزبائن، إلى أن استقر به الحال فرّانا يحمل الخبز على رأسه لبيعه في الشوارع، ويعيش حياة مثخنة بالحرمان والخذلان والفقر واليتم والفقد، سيكون بعد كل تلك المعاناة، أحد أبرز وأهم رواد الحركة الثقافية والصحافية السعودية) ومن رحم المعاناة سيولد ناقد، وأديب، وصحافي سعودي موهوب وفريد من نوعة، وعلامة فارقة في العمل الثقافي. شكلّت هذه البدايات القاسية، شخصية عبدالفتاح أبو مدين، وصنعت منه أيقونة ملهمة في التحدي والمواجهة والنضال، تُشبه شخصية عميد الأدب العربي طه حسين، الذي تأثر به عبدالفتاح أبو مدين بشكل كبير، وأصبح يُعرف بـ «الطحسني». يعد أبو مدين أحد مؤسّسي نادي جدة الأدبي وأحد أبرز رؤسائه، وقد شغل منصب رئيس النادي الأدبي الثقافي بجدة، فمكث قرابة الخمسة والعشرين عاماً بين أروقة النادي (١٩٨٠م - ٢٠٠٦م) حيث شهد النادي في عهده أنشطة، وفعاليات، وإسهامات ثقافية متنوعة، وإليه يُنسب الفضل في صياغة سياسات النادي المرتبطة بالمجتمع، وتنويع منتجاته، وأدواره في إقامة الندوات والمحاضرات والمؤتمرات، وطباعة الدوريات الأدبية المختصة. وكان لإنتاجه الأدبي ضجة ثقافية أوجدت حراكاً إبّان رئاسته النادي وعضوية مجلس إدارته، حيث فسح المجال للشباب، وأوجد الفرص للمثقفات للمشاركة في الفعل الثقافي جنباً إلى جنب مع المثقفين. وأشرع أبواب النادي كافة للأفكار الجديدة، وأسّس مشاريع أدبية ونقدية عدة، وطرح قضية الحداثة بكل أنماطها وبجرأة، طبع أبو مدين العديد من الكتب المهمة في الفكر النقدي والإبداع والتراث البلاغي لأدباء ونقاد سعوديين وعرب تجاوز عددها الـمائة والخمسين كتاباً، جميعها تعد من أهم مراحل طباعة الكتب الأدبية في المملكة. أسهم في إصدار عدد من الدوريات الشهيرة على مستوى العالم العربي، كـ (جذور) المختصة بنقد التراث العربي، و(نوافذ) المختصة بالترجمة للأعمال الأدبية العالمية، و(علامات) للنقد الثقافي والأدبي، و(الراوي)، و(عبقر) كما أسس مجلة (الرائد) الثقافية. وفي عهده تم تأسيس كيان (ملتقى النص) التابع للنادي الأدبي والثقافي بجدة، وجماعة (حوار). وترأس تحرير صحيفة البلاد (صوت الحجاز) لمدة سبع سنوات، وأسهمت سياساته في الخروج بالمؤسسة الصحافية العريقة من المديونية إلى الربحية بفائض ضخم. كما رأس تحرير المحلق الأسبوعي لصحيفة عكاظ، وجعله ينافس العدد اليومي المدعوم مالياً. أسس مع محمد أمين يحيى صحيفة (الأضواء) التي أغلقت بعد ذلك. وعمل أيضاً مديراً لإدارة مؤسسة «عكاظ» للصحافة، ومديراً لتحرير العدد الأسبوعي لصحيفة عكاظ، كما عمل مديراً لإدارة مؤسسة «البلاد» للصحافة والنشر، إضافة إلى مشاركته وريادته في كثير من تفاصيل الحركة الثقافية الوطنية. وللأديب عبدالفتاح أبو مدين اثنا عشر كتاباً، في النقد والدراسة والسيرة، أبرز تلك الكتب: «في معترك الحياة» عام 1982، «وتلك الأيام» عام 1986، «حكاية الفتى مفتاح» عام 1996، «هؤلاء عرفت» عام 2000، و«أيامي في النادي» عام 2010، ومنها: (أمواج وأثباج) نقد أدبي، و(الصخر والأظافر) دراسات نقدية، و(حمزة شحاتة ظلمه عصره) قراءات تأملية، و(هؤلاء عرفت)، و(لن أسافر). ولقد حظي الأديب عبدالفتاح أبو مدين بعديد من التكريمات والإشادات، أهمها وأحدثها وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى الذي تسلمه من يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» في دورته الـثالثة والثلاثين2018م. وصدر فيه كتاب تكريمي بعنوان (مسيرة عطاء الفتى مفتاح) وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من التوقيعات التي كتبها مثقفون سعوديون عاصروا مسيرة عبد الفتاح أبو مدين، تعبيراً عن الامتنان لتجربته ودوره الريادي. وتم تكريم أبو مدين بمؤتمر الأدباء السعوديين الثالث. وقد أعدت حول سيرة هذا الرمز الثقافي الكبير عديد من رسائل الدكتوراه والماجستير، كما كُتبت بعض المؤلفات والدراسات والمقالات عن شخصيته العصامية الفريدة. وبعد صراع مع أمراض الشيخوخة ودّع أبو مدين الحياة بعد عمر مبارك ومديد من الإنجازات والعمل الفريد.
مشاركة :