إلغاء جوهر الإنسان

  • 5/19/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يصاب المرء بالمغص وهو يقرأ الخبر الذي نشر منذ أيام عن ذلك المسرحي الفرنسي الذي وقف متجرداً من لباسه، كيوم ولدته أمه، في قاعة غاصة بالبشر، وتحت عدسات التصوير، وكاميرا البث المباشر لإحدى كبرى القنوات الفرنسية، ليلقي خطاباً احتجاجياً أمام وزيرة الثقافة الفرنسية، وقد عبر الكثير من الحاضرين عن الخوف الذي أصابهم لحظتها، وامتعاضهم مما قام به ذلك الرجل، لكنّه طبعاً كان مسلحاً بقوانين تكفل له أن يتجرد من لباسه، وبدعم منظمات العراة في فرنسا وأوروبا ذات التأثير القوي. ليس ستر العورة قضية دينية فقط، بل هي قضية ترتبط بجوهر الإنسان وأصول ثقافته وحضارته. فالستر هو السمة الأولى لتمييز الإنسان عن الحيوان، وإذا سلمنا جدلاً بالنظريات التي تقول إن الإنسان عاش مدة بدائية كان فيها يعيش على التقاط ثمار الأشجار ويعيش في الأدغال بلا مأوى ولا لباس، فإن بداية انتقاله إلى الحضارة كانت صناعته للّباس من جلد الحيوان، واتخاذه للمسكن، فبداية الحضارة ارتبط جوهرياً بقرار ستر العورة، لأنه الإعلان المادي عن اختلاف الإنسان عن الحيوان، ولو تخلى الإنسان عن حاجته إلى اللباس، فإنه لن يكون في حاجة إلى السكن، ولا المظاهر الحضارية الأخرى، فما الذي يريد أن يستره بعد أن يكشف عورته، وحينها تصبح الحضارة (بمعنى العمران) لا قيمة لها، والأولى به حين ذاك أن يتجه إلى الغابة، وأن يعيش حيوانيته بكل أبعادها، ويبيح لنفسه كل الفواحش، وكل الأفعال التي يصفها البشر بالإجرامية، حتى القتل، لأنه حر مطلق الحرية في تصرفاته. إن تكسير قيود العقل البشري هو المعنى العميق الذي يسْلمنا إليه ذلك المظهر المادي المتمثل في التجرد من اللباس، لأنه نتاج لفلسفات العدمية والعبث التي سيطرت على أوروبا في القرن العشرين، وأعلنت عن موت الإله أولاً، ثم موت الإنسان ثانياً للتخلص من سيطرة العقل، أي سيطرة الفلسفة والأخلاق والدين والأيديولوجيا، وكل نظام ذي معنى، فالمراد في النهاية هو اللامعنى اللانظام اللاإنسان، وهذا هو العبث بعينه. لو أن هذه النظريات بقيت في إطار الفكر لكان أمرها على البشرية أخف، لكنّ الإشكالية هي أن الفكر الفلسفي بعد ظهور نظرية الأبستمولوجيا أصبح يميل إلى التطبيق، وأصبح الفلاسفة يطرحون أفكاراً، ويسعون إلى تطبيقها على أرض الواقع، ويحشدون لها الأنصار، وفي عالم تشكل فيه جماعات الضغط قوة يرهبها السياسيون أصبح من السهل على مجموعة صغيرة تتبنى أكثر الأفكار تطرفاً، وتمتلك تأثيراً إعلامياً أن تغير توجهات السياسة وتفرض على الساسة سن قوانين تشرّع تطرفها، حتى ولو لم يكونوا مقتنعين بتلك القوانين لأنهم يريدون أصوات الناخبين، وهذا ما حدث بالضبط مع كثير من الحركات الشاذة في المجتمعات الغربية التي أصبحت اليوم حركات شرعية، وبعد أن شرّع العري، والمثلية، لن نستغرب إذا سمعنا مستقبلاً عن تشريع الاستنساخ الآدمي وامتلاك الإنسان لما يشاء من نسخه، أو القتل أو غيره. dah_tah@yahoo.fr

مشاركة :