موازنة النمو الاقتصادي وتنمية الإيرادات غير النفطية

  • 12/9/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

واجهت السياسة المالية تحديات واسعة ومختلفة، طوال الأعوام التي تلت انخفاض أسعار النفط في منتصف 2014، ثم البدء بتنفيذ أوسع وأشمل إصلاحات هيكلية للاقتصاد الوطني هي الأكبر في تاريخه، تنوعت تلك التحديات بين أهمية استمرار الإنفاق الحكومي في دعم وتحفيز النمو الاقتصادي، والتركيز بدرجة أكبر على تحفيز القطاع الخاص، ومن جوانب أخرى تعمل الحكومة على استمرار السيطرة على معدلات العجز المالي السنوي ومستوى الدين العام، وتنفيذ عديد من السياسات الهادفة إلى تنمية الإيرادات غير النفطية وتقليل الاعتماد على النفط، والعمل أيضا على رفع كفاءة الإنفاق الحكومي، والوفاء بمتطلبات الشفافية والإصلاح. أهداف وتحديات قد تجدها تتضارب في بعض تقاطعاتها كموضوع تحفيز القطاع الخاص، وضرورة دعمه للقيام بأدواره ومسؤولياته تجاه تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، إضافة إلى مهمته الأساسية على مستوى توظيف العمالة الوطنية، وهو ما عبرت عنه السياسة المالية بتسخير أكثر من 200 مليار ريال على هيئة وصفات عديدة لدعم القطاع الخاص، وفي الوقت ذاته كونه الوعاء الأكبر لتمويل الإيرادات غير النفطية التي تعتمد بالدرجة الأولى على تسلُّم عوائد الرسوم والضرائب، واستقطاعها من هوامش أرباحه، وصلت نسبة تلك الأعباء الضريبية إلى نحو 17 في المائة من الناتج المحلي للقطاع الخاص خلال العام الجاري، مقارنة بما لم يكن يتجاوز سقف 7 في المائة في بداية فترة الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد الوطني، وتشكل هنا عبئا ماليا إضافيا على كاهل القطاع نفسه، لتقوم هنا أهمية التوفيق بين مختلف السياسات الاقتصادية والمالية وغيرها من حزمة السياسات والبرامج. ولا يقف الأمر عند هذا الحد من التحديات؛ بل يمتد إلى ضرورة استمرار الإنفاق الحكومي في الوفاء بأدواره ومسؤولياته المهمة، وكونه إحدى أثقل ركائز النمو الاقتصادي محليا، شكل خلال العام الجاري نحو 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 40 في المائة بداية فترة الإصلاحات، وفي الوقت ذاته أن يتم العمل على ترشيد الإنفاق الحكومي، ووضعه في مرتبة عالية من حيث كفاءة الإنفاق، والتركيز هنا على دور الإنفاق الرأسمالي على مشاريع التنمية المحلية، التي وصلت نسبتها إلى 5.6 في المائة خلال العام الجاري، مقارنة بنسبة 10.7 في المائة بداية الإصلاحات، والقضاء في ضوء ذلك على أي منافذ للفساد المالي والإداري، وإخضاع تنفيذ مشاريع الدولة لآليات الإصلاح والرقابة والشفافية. إن التوفيق بين تلك الأهداف والتطلعات التي قد تتعارض مع بعضها بعضا في عديد من التقاطعات، وضرورة المحافظة على نسق تقدم خطط وبرامج إصلاح الاقتصاد الوطني على مستوى رؤيته الطموحة طويلة الأجل، وصولا إلى تثبيت أقدامه على أرض يكون أكثر استقلالية عن دخل النفط وتقلباته، ليكون مستمدا عافيته من إنتاجيته وتنوع قاعدته، كل ذلك يعد في منظور أي اقتصاد حول العالم أحد أكبر التحديات التي يواجهها، ويزداد ثقل المهمة في الوقت الذي قد تجد خلاله الاقتصاد العالمي يمر بظروف غير مواتية كما هو قائم الآن، نتيجة الصراعات التجارية بين أقطابه، ونتيجة لآثار ما بعد سياسات التيسير الكمي التي قامت بها البنوك المركزية عقب الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمن. تقتضي الفترة الراهنة "فترة الإصلاحات"، أن يقوم كل طرف بتحمل جزء من التحديات، فلا الحكومة تتحمل الجزء الأكبر من التحديات، مقابل عدم تحمل القطاع الخاص أي جزء أو الجزء الأقل وزنا، والعكس أيضا صحيح؛ وألا يتحمل القطاع الخاص الجزء الأكبر مقابل عدم تحمل الحكومة أي أعباء! هذه نظريا فكرة مقبولة من الجميع، إنما الخلاف في تطبيقها على أرض الواقع، وكيف الوصول إلى الميزان الأكثر عدالة وقبولا من الأطراف كافة، ولعل فتح قنوات الاتصال والمشاركة المستمرة بين كل من الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص، سيكون بكل تأكيد إحدى أهم وأفضل الأدوات التي يمكن الاعتماد عليها. إننا أمام تحديات تنموية عديدة يجب تجاوزها يدا بيد، وأمام طموحات وأهداف منها القريب الممكن تحقيقه، ومنها ما هو أبعد من ذلك إما في مرمى عامين مقبلين أو أكثر من ذلك، أهدافها النهائية أن يقف اقتصادنا الوطني على أرض أكثر صلابة، وأكثر استقرارا، والمؤمل أيضا أننا حتى أثناء شق هذا الطريق الطويل من الإصلاحات والتطوير الشامل، يجب على الجميع أن يسهم بكل ما يمكن في اتجاه خفض معدلات البطالة بين صفوف المواطنين والمواطنات، والعمل أيضا على إخفات جذوة عديد من التحديات التنموية السابقة التي لا تزال قائمة حتى تاريخه. إنه العمل الأقرب للصحة والواقعية في ظل الظروف الراهنة، أن يستمر تحفيز الاقتصاد الوطني عموما، والقطاع الخاص على وجه الخصوص، كونه الجزء الأكثر إنتاجية مقارنة ببقية قطاع الاقتصاد، لكن إلى الحد الذي لا نتجاوز عنده الإخلال ببقية الأهداف والبرامج والإصلاحات، ودون التسبب في ديمومة ما نستهدف جميعا الخلاص منه، من ركون دائم ومستمر ممثلا في الاعتماد المفرط على دخل النفط، ومن ديمومة التشوهات الهيكلية كالاحتكار أو المضاربة أو التستر التجاري أو الاعتماد المفرط على العمالة الوافدة وغير ذلك من الاختلالات.

مشاركة :