مغامرة فضائية بنزعة إنسانية وتدفق عاطفي عميق

  • 12/9/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

افتراض وجود كائنات عاقلة وأكثر ذكاء وتطوّرا، خارج مدار الكرة الأرضية، كان أحد الموضوعات التي عالجتها سينما الخيال العلمي، وصار الفضائيون الأذكياء والخطيرون كما الغزاة علامة فارقة في هذا النوع من الأفلام. ومنذ مغامرات “ستارتريك” التي شاهدناها صغارا بالأبيض والأسود وحتى الساعة، كانت المركبات الفضائية تحمل روادها وتدور بهم بين المجرات والكواكب في كون فسيح يبعد عنا ملايين السنوات الضوئية. وفي فيلم “نحو النجوم” للمخرج جيمس غراي سوف نعيش المغامرة ذاتها، لكننا لن نجدها في نفس شكلانية أفلام عالجت تلك الثيمة مثل “كوكب ممنوع” (إنتاج 1956) و”سولاريس” (1972) و”رجل النجوم” (1984) و”يوم الاستقلال” (1996) و”العامل الخامس” و”اتصال” (1997) و”حافة الغد” (2014) و”كابتن مارفيل” (2019) وغيرها من الأفلام والسلاسل السينمائية. وربما يكون فيلم “النجمي” للمخرج كريستوفر نولان (إنتاج 2014) هو الأقرب إلى لغة ومعالجة فيلمنا هذا، ولكن في إطار الشخصية المغامرة الواحدة، أما المعالجة السينمائية وبناء السر الفيلمي فمختلفان تماما. هنا ثمة معالجة سينمائية بحس إنساني عميق، فعلى الرغم من طابع الفيلم في كونه مغامرة استكشافية للفضاء، إلاّ أنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الإنسان المحاط بأزماته الأكثر شخصية وخصوصية من جهة، وكيف يتحوّل التفاعل مع المكان المجهول إلى دافع للاغتراب عن الواقع وشبه الانقطاع عن الحياة الاجتماعية، من جهة أخرى. الفيلم يعالج بشكل فلسفي وشاعري كيف يتحول تفاعل المرء مع المكان المجهول إلى دافع للاغتراب عن واقعه ومحيطه روي (الممثل براد بيت) رائد فضاء نجح سابقا في مهام كادت أن تودي بحياته، يكلف بمهمة جديدة تنطلق من القمر باتجاه كوكب نبتون لاستجلاء مصير والده الذي كان في رحلة فضائية لذلك الكوكب ولم يعد قط بعدما قطع اتصالاته مع العالم الخارجي. العلاقة بين الأب والابن ذات طابع إشكالي ومثيرة للعديد من التساؤلات، كلاهما مأخوذ بهوس الفضاء واستكشافه، وكلاهما تخلى عن التزاماته العائلية لصالح رحلاته طويلة الأمد عبر الفضاء. تكليف روي باقتفاء أثر والده سوف يمسّ فيه موضع ألم شديد بسبب شوقه الشديد له ورعبه من حقيقة موته في المهمة، وبذلك يتأسّس خط سردي أكثر تفاعلا وإنسانية ويتحوّل إلى بوح مباشر في ما يشبه اليوميات من وجهة نظر روي. في موازاة ذلك، هناك الكثير من الحبكات الثانوية وأشكال شتى من المؤامرات، منها مثلا أن تلك الرحلات الفضائية الاستكشافية كان الهدف منها مهام أخرى غير معلنة كالتجارب على الحيوانات واستخدام الأسلحة النووية وغيرها. وحتى مهمة روي الفضائية للوصول إلى الأب لم تكن إلاّ خدعة أخرى تهدف إلى قيام روي بتصفية أبيه. تجرى التجارب الأولى لاقتفاء أثر الأب من خلال توجيه رسائل عبر الأثير إليه، تنتهي بتوجيه روي رسالة عميقة وعاطفية أشبه بالمناجاة إلى أبيه، لتنتهي جلسات إرسال تلك الرسائل بشكل مفاجئ بقرار السلطات أن روي لا يصلح لأي مهمة وأنه يجب أن يعاد إلى الأرض فورا. واقعيا كان الاستغناء عن روي بشكل مفاجئ ربما بسبب وصول رد من الأب، ولكن وفي جميع الأحوال كانت تلك خطوة صدمت روي ليلتقي وهو في تلك الدوامة مع فتاة تخبره أن والده رفض العودة إلى الأرض قبل انتهاء المهمة، فيما قرّر هو البقاء إلى أجل غير محدّد بعد أن تخلّص من معارضيه. ويستدل روي على طريق سري يساعده من أجل دخول المركبة الفضائية المتجهة نحو نبتون، وليقع صراع شرس يتخلّص فيه من جميع من كانوا على متن المركبة الفضائية وينطلق وحيدا حتى يلتحم بالمركبة التي يقودها الأب. حفل الفيلم بنسيج تعبيري عميق ومتميز وتم فيه إثراء المضمون بدلالات صورية بالغة التأثير، وخاصة مشاهد رواد الفضاء وهم خارج نطاق الجاذبية الأرضية وهم يعومون محلقين في الفضاء. جماليات التصوير قدّمت الإنسان المغامر نقطة في الفضاء، وأجاد المخرج وفريق عمله تقديم مشاهد في منتهى الروعة والصنعة الفنية المتقنة، وكل ذلك أضفى عناصر جمالية إضافية. ويمكن خلال ذلك رسم خارطة مكانية شديدة الغزارة والتنوع تم فيها استخدام أشكال وتنويعات مكانية بحسب ميول الشخصية ودوافعها، فضلا عن كثافة في استخدام الغرافيك والخدع السينمائية. في هذا الفيلم سوف يعيد الإنسان المغامر عبر الفضاء سيرته الأولى متحيرا في أمر الكواكب والمجرات، وهو الذي دفع الأب إلى المضي في المهمة إلى النهاية وكأنه اندمج عقليا وجسميا مع المجرات وصار مجرّد ذرّة هائمة في الفضاء الفسيح. ربما نكون أقرب إلى قصيدة عميقة وحس إنساني مؤثر، خاصة مع اعتراف الأب بتقصيره تجاه ابنه وأمه وانشغاله بأبحاثه في الفضاء وهو اعتراف متأخر للغاية زاد الابن إحباطا ومع ذلك جدد حبه لوالده. واقعيا لم تكن القصة السينمائية حافلة بتحولات كثيرة ولا بالتصعيد الدرامي الكافي، ولهذا تم التركيز على الشكل السينمائي وتعميق دلالات وجماليات الصورة، فضلا عن السرد الفيلمي القائم على استذكارات الماضي.

مشاركة :