قبل عامين من الآن، وفي أحد أيام الجمع، اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسميا بالقدس كعاصمة لإسرائيل. لقد قلنا آنذاك إن ما فعله الرئيس ترامب ينم عن عدم المسؤولية وانعدام الإحساس بأن ما فعله سيلحق ضررا بالغا بحقوق وحياة الشعب الفلسطيني ويضع حدا نهائيا للمساعدة التي يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية في المفاوضات من أجل إنهاء الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. لم نكن نعلم أن ما أقدم عليه الرئيس ترامب آنذاك كان مجرد المقدمة للضرر الفادح الكبير الذي سيلحقه تباعا بالحقوق الفلسطينية وبفرص تحقيق السلام الذي ينهي الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. خلال العامين الماضيين اتخذت إدارة الرئيس ترامب سيلا من الإجراءات الأخرى التي أضرت بحقوق الشعب الفلسطيني، فقد أغلقت القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية وأغلقت مكتب التمثيل القنصلي الفلسطيني في العاصمة واشنطن وعلقت كل المساعدات التي كانت تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الفلسطينيين وإلى المنظمات الأمريكية غير الحكومية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة كما أوقفت المساعدات عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، والتي تتولى تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين. لم تقف إدارة الرئيس دونالد ترامب عند ذك الحد بل إنها أزالت عبارة «المحتلة» من كل المطبوعات والمنشورات والتصريحات الرسمية التي تشير إلى الأراضي المحتلة وأعلنت أنها لا تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية «غير قانونية». بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك واعتبرت أن الفلسطينيين لا يرتقون إلى وضع «اللاجئين». صحيح أن كل إجراء من هذه الإجراءات التي اتخذتها إدارة دونالد ترامب ينطوي على عدة مشاكل في حد ذاتها، لكن إذا ما جمعت في بوتقة واحدة فإن الضرر الفادح الذي سينجم عنها سيدفع الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف الى طريق نكبة ثانية مدمرة. سعى الرئيس دونالد ترامب وإدارته خلال عامين فقط من الزمن إلى تقويض كل المكاسب التي حققها الفلسطينيون خلال العقود السبعة الماضية, وذلك خلال عامين فقط. فقد أغلقت الولايات المتحدة الأمريكية مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وجردت الفلسطينيين من وضع اللاجئين ولم تعد تعترف بهم كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني. إن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر بذلك أن الفلسطينيين لم يعودوا يشكلون جماعة قومية أو شعبا يستحق الاعتراف أو حق تقرير المصير. في الأثناء ظلت الإدارة الأمريكية تعطي صكا على بياض لإسرائيل كي تحقق كل نزواتها المتعلقة بالقدس واللاجئين والمستوطنات وهو ما زاد في إضعاف قدرة الفلسطينيين على مواجهة الإجراءات الإسرائيلية التعسفية والجائرة, التي تشمل عمليات ضم الأراضي ومصادرتها بالقوة وحتى طرد سكانها منها. لقد برهنت الإدارة الأمريكية بذلك عن ازدرائها لسيادة القانون والأعراف الدولية كما أنها خلقت عالما خشنا وأكثر خطورة, عالما تستطيع فيه قوة إقليمية مسنودة من الولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل ما تشاء وتفلت من العقاب بعيدا عن طائلة القانون الذي لا يحاسبها عن سياساتها. أتساءل أحيانا كثيرة عما إذا كانت هذه الإجراءات التي أعلنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب تمثل ما ستكون عليه «صفقة القرن». قد تكون «صفقة القرن» تنحصر فعلا في تلك الإجراءات التي اتخذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب خلال العامين الماضيين على وجه الخصوص, وهي إحراءات ترمي إلى خلق نظام عدمي يطلق العنان للإسرائيليين كي ينفذوا أقصى سياساتهم الجائرة فيما يجبر الفلسطينيون في ظل هشاشة وضعهم على العيش في هذا العالم المختل، مجردين من أي حقوق أو آلية يمكن اللجوء إليها للدفاع عن حقوقهم. هذا يجعلني أقول اليوم إن هذه الإجراءات التعسفية والمتراكمة، التي اتخذتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، قد هيأت الظروف اللازمة للنكبة الفلسطينية الثانية. لا تزال توجد، بطبيعة الحال، بعض الثنايا المفتوحة أمامنا، كي نستعد لتفادي الوصول إلى هذه الكارثة الوشيكة. لقد تسببت الولايات المتحدة الأمريكية وحدها في هذه الفوضى غير أن كل إجراء من الإجراءات التي اتخذتها والتي أتينا على ذكرها قد قوبل بالرفض من الدول العربية وأغلب بلدان العالم, باستثناء بعض الدول الصغيرة والخاضعة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تفكر في السير على منوال واشنطن ونقل سفاراتها بدورها إلى القدس. في شهر نوفمبر 2019 صوتت الجمعية العامة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بأغلبية 170 مقابل 2 على قرار ينص على تأكيد الدعم لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا - كما نددت الدول العربية والأوربيون بالموقف الأمريكي المعلن من المستوطنات الإسرائيلية. لقد ازدادت العزلة السياسية التي تتخبط فيها إدارة الرئيس دونالد ترامب بسبب السياسات التي تنتهجها غير أنها تمادت لأنها لم تجد من يتحدى إجراءاتها التعسفية. يتعين إذا العمل على التصدي لهذا التيار الهدام الذي بدأ يسري في ساحة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين والدخول بالتالي في مواجهة جريئة وشجاعة مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. بطبيعة الحال، فإن التصريحات أو القرارات لن تكون كافية, لأنها لا تقابل سوى بالتجاهل واللامبالاة. يتعين اليوم على بقية دول العالم أن تتخذ موقفا قويا وتقول «كفى يعني كفى!» وتبلغ الولايات المتحدة الأمريكية بالتالي أن هيمنتها على «مسار السلام» بين إسرائيل والفلسطينيين يجب أن تنتهي. يجب أيضا مواجهة إسرائيل حتى تدفع ثمن سياساتها التي تنتهك حرم القوانين والأعراف الدولية, وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الانسان الفلسطيني. يتعين على الفلسطينيين أيضا أن يوحدوا صفوفهم ويعتمدوا أسلوب المقاومة مع النأي عن العنف لما لذلك من تأثير كبير. في الحقيقة أتردد كثيرا في هذا الأمر، وذلك لسببين اثنين. يتمثل السبب في أن الطرف الأكثر ضعفا وهشاشة في الصراع هو الذي يجد نفسه اليوم مطالبا باتخاذ موقف والتصدي لهذه الاجراءات الأمريكية والاسرائيلية. .. وحتى إذا ما انتفض الفلسطينيون مرة أخرى، كما فعلوا أكثر من مرة من قبل فإن مقاومتها ستنتهي في حمام دم وذلك ما لم تبد بقية دول وشعوب العالم استعدادها لمؤازرتهم وتحدي الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. لقد بدأ الوقت ينفد منا وإذا لم نتحرك بسرعة فإننا قد نشهد عما قريب نكبة ثانية مدمرة تحل بالشعب الفلسطيني. إذا ما حدثت النكبة الثانية فإن مسؤولية المأساة لن يتحملها الإسرائيليون فقط، أو الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت لهم كل الدعم والمؤازرة. إن المسؤولية ستتحملها كل دول العالم التي تخاذلت وفشلت في التحرك لمنع حدوث المأساة.
مشاركة :