العلاقات بين الدول تنتقل بين مد وجزر حسب المواقف والمصالح والرؤى، ولايمكن بحال من الاحوال تكون تلك العلاقات على وتيرة واحدة من التوافق او التنافر ولكن المصالح هي من تحكم تلك العلاقات والتفاصيل التي تكون بين دفتي الشد والجذب حسب متانة العلاقات والاهداف المشتركة. العلاقات السعودية الاميركية مثال حي يعطينا دلالة واضحة على ان العلاقات بين الدول - مهما كانت متانتها - تتعرض لهزات قوية تؤثر على سيرها ولكن ايضاً ممكن ان تعيدها الى اطرها الصحيحة في ظل المصالح المشتركة والاهداف الاستراتيجية التي لا تتوقف عند المراحل التي تمر بها وتتعداها الى الجوهر الحقيقي لتلك العلاقة. واشنطن تؤكد أن الأهداف الأميركية والسعودية متطابقة في الشرق الأوسط المواقف الاميركية من قضايا المنطقة خاصة القضية الفلسطينية وادارة واشنطن للازمة في سورية والتقارب مع طهران رغم سياساتها في المنطقة التي تتسم بالغموض في الكثير من المواقف والنوايا المبهمة تجاه دول المنطقة بشكل خاص ومحاولة التسلل الى فضاء العالم العربي بصورة اوسع. ورغم اختلاف الفلسفة السياسية بين الرياض وواشنطن حول تلك الملفات سابقة الذكر الا ان العلاقات بينهما تظل مهمة لكلاهما عطفاً على المصالح المشتركة سياسياً واقتصادياً وامنياً وبالتاكيد استراتيجياً. ومن اجل الحفاظ على مستوى مرتفع من التفاهم المشترك والتاكيد على استراتيجية العلاقات السعودية الاميركية أكد المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني ان بين الولايات المتحدة والسعودية علاقة قوية ومستقرة وشراكة طويلة، معتبراً ان قرار قبول عضوية مجلس الأمن أو رفضها أمر يعود للرياض. وسئل كارني خلال مؤتمر صحافي عن موقفه من احتجاج المملكة على السياسات الاميركية في المنطقة، فأجاب "يمكنني ان أقول ان وزير الخارجية الأميركي جون كيري تحدث مطولاً عن الأمر، وهو يخرج من اجتماعات مع وزير الخارجية السعودي وقد أجريا مناقشات شجاعة وبناءة حول هذه المسائل". وأضاف ان "بين الولايات المتحدة والسعودية شراكة طويلة وتتشاوران بشكل وثيق حول مجموعة من القضايا الإقليمية والسياسية والأمنية بما في ذلك إيران وسورية والشرق الوسط وعملية السلام ومصر". اقتصاديون: التوتر في العلاقات لن يضر بالروابط التجارية وتابع كارني "فيما يتعلق بالقضايا الأمنية الوطنية، فإن بين الولايات المتحدة والسعودية علاقة قوية جداً ومستقرة، وبالرغم من اننا لا نتفق حول كل المسائل.. إلا اننا نجري مناقشات صادقة ومنفتحة". وسئل كارني عن الموقف الأميركي من رفض السعودية مقعداً في مجلس الأمن الدولي، فأجاب ان "المقعد في مجلس الأمن يمنح الدول الأعضاء فرصة للتواصل بشكل مباشر حول قضايا مهمة مثل سورية وإيران ومصر وعملية السلام في الشرق ألوسط". لكنه أوضح ان "قبول السعودية للمقعد أو رفضها له هو قرار يعود إليها، وسوف نتابع تعاوننا الثنائي الوثيق حول مجموعة من التحديات المشتركة بما في ذلك القضايا التي يبحثها مجلس الأمن بشكل مباشر". وكرر ان بين أميركا والسعودية اختلافات حول بعض القضايا، "لكننا نعمل عليها ونناقشها بصدق وانفتاح". وشدد على أنه بين واشنطن والرياض "علاقة جوهرية في المجالات الأمنية الوطنية، وهي مستقرة جداً ومهمة للمصالح الأميركية والسعودية". وكررت الولايات المتحدة تأكيدها قوة ومتانة العلاقة بينها وبين المملكة، مشددة على ان الأهداف الأميركية والسعودية متطابقة في منطقة الشرق الأوسط. وسئلت نائبة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية ماري هارف عن العلاقات الأميركية السعودية فأجابت ان "علاقتنا وثيقة جداً وقوية مع السعوديين". وأضافت هارف "لدينا الأهداف نفسها في المنطقة، ونحن نعمل بشكل وثيق مع السعوديين في ما يتعلق بوضع حد للحرب الأهلية في سورية وتدمير أسلحتها الكيميائية، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي، والسلام في الشرق الأوسط". وتابعت ان "النقاش هو حول كيفية تحقيق هذه الأهداف، فهذه قضايا معقدة ونحن لا نختلف دائماً مع كل حلفائنا وشركائنا ولكنني أود ان أشير إلى ان وزير الخارجية (الأميركي جون كيري) التقى مع (وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل) في باريس على مدى ساعتين ونصف تقريباً". وشددت على ان اللقاء كان إيجابياً ومثمراً "ونحن نركز على كيفية العمل معاً في ظل وجود بعض الاختلافات، وبيننا بالفعل علاقة أساسية قوية معهم (أي السعوديين)". وسعت الإدارة الامريكية للحد من أي ضرر قد يلحق بالتحالف الذي يربط الولايات المتحدة بالمملكة من جراء خلاف على دور الولايات المتحدة في الشرق الاوسط أبرز تباينات استراتيجية متنامية. فقد سلطت سلسلة من الانتقادات العلنية الضوء على استياء المملكة من الولايات المتحدة بسبب موقفها من الأزمة السورية وتقاربها الدبلوماسي مع ايران وفتور موقفها من الحكومة المصرية. ولا أحد يتوقع انهيار العلاقة الاستراتيجية التي ظلت على مدار أكثر من نصف قرن أحد أركان السياسة الامريكية في المنطقة لكن بعض المصالح المتبادلة التي جمعت بين الحليفين بدأت تهتز. وأبدى البيت الابيض قدرا أكبر من الاستعداد للمجازفة بتوتر العلاقات مع حلفاء للولايات المتحدة في سبيل تحقيق ما تهدف إليه من تجنب التدخل العسكري في سورية والسعي لابرام اتفاق نووي مع ايران. وشبه بعض المسؤولين الامريكيين الحاليين والسابقين في لقاءات خاصة التحذير السعودي بثورة غضب لن يكون لها أثر باق على العلاقات الثنائية. ومنذ سنوات بعيدة ربطت واشنطن والرياض شراكة وثيقة في الحرب على تنظيم القاعدة كذلك فإن المصالح مشتركة في الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في ضمان أمن امدادت النفط من السعودية ودول أخرى. وقال مسؤول أمريكي كبير سابق له خبرة واسعة بالاتصالات الامريكية بالسعودية "لا أستطيع القول إن هذا صدع رئيسي" مشيرا إلى أن أوجه اعتماد كل من الطرفين على الاخر متعددة. إلا أن بعض المحللين في واشنطن يقولون إن الاراء أصبحت متباينة بشأن سورية وايران ومصر بدرجة يتعذر معها أن تعود العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية إلى التقارب الذي كانت عليه من قبل. وانفجر الغضب السعودي الاسبوع الماضي عندما رفضت المملكة شغل مقعدها الذي فازت به في مجلس الامن احتجاجا على ما وصفته بفشله في تسوية الصراع السوري والصراع الفلسطيني الاسرائيلي. ومن أبرز المخاوف السعودية أن واشنطن أخفقت في التحرك بالقدر الكافي في سورية سواء فيما يتعلق بالتهديد باستخدام القوة العسكرية أو في تسليح المقاتلين المناهضين للحكومة بالاضافة إلى استعدادها للتساهل في أي مفاوضات مع ايران. وقال سايمون هندرسون الخبير في شؤون دول الخليج بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إن الرسالة التي وجهتها السعودية هي أن الرئيس باراك أوباما وإدارته "صموا آذانهم عن المصالح السعودية". كذلك فإن واشنطن تختلف مع السعودية بشأن الوضع في مصر حيث قلصت من مساعداتها العسكرية للقاهرة عقب الاطاحة بحكومة اسلامية منتخبة وتعهدت الرياض بسد أي نقص نتيجة خفض أي مساعدات خارجية. يذكر ان المملكة ساعدت واشنطن بسد فجوة امدادات النفط العالمية التي أحدثتها حملة أوباما لفرض عقوبات دولية أثرت بشدة على قطاع الطاقة في ايران. ويعتقد بعض المحللين الان أن تعديل فريق الامن القومي في الفترة الثانية لاوباما ربما ساهم في التوترات وذلك من خلال عدم تعيين شخصية على مستوى رفيع للتعامل مع السعودية وأشاروا إلى ضرورة أن يوفد أوباما مبعوثا لاصلاح ما فسد. وكان جون برينان رأس الحربة في فريق أوباما لمكافحة الارهاب والذي أصبح مديرا لوكالة المخابرات المركزية كثيرا ما يتجاوز مهام وظيفته لمعالجة قضايا متعلقة بالسعودية. وقال برايان كاتوليس زميل مركز اميركان بروغرس في واشنطن "إذا أدركوا أنهم ليس لديهم شخصية يلجؤون إليها على مستوى عال فهذه مشكلة لأنهم شريك رئيسي جدا." على الجانب الاقتصادي قال رجال أعمال واقتصاديون ان إحباط السعودية إزاء السياسة الأمريكية بالشرق الأوسط لن يضر بالعلاقات التجارية أو مبيعات النفط بين البلدين. وعلى الرغم من استخدام العقود الضخمة بين حين وآخر في تعزيز العلاقات السياسية لاسيما في مجال الدفاع قال اقتصاديون ورجال اعمال ان الروابط التجارية بين الولايات المتحدة والشركات السعودية عادة ما تكون بمنأى عن أي تراجع في الروابط الأخرى. وقال مصدر دبلوماسي في الخليج "لا أظن ان هناك صلات مباشرة بين التبادل التجاري والعلاقة السياسية. هذه ليست الطريقة التي يعمل بها السعوديون. لكن لابد ايضا من الاعتراف بحقيقة الدور المساعد للعلاقات الثنائية حين تكون جيدة." وارتبطت السعودية -أكبر مصدر للنفط في العالم- وامريكا -أكبر مستهلك له- بعلاقات اقتصادية وثيقة على مدى عقود أسست خلالها شركات أمريكية معظم البنية التحتية للدولة السعودية الحديثة بعد طفرتها النفطية في سبعينيات القرن الماضي. وضخت المملكة على مدى عقود معظم عائداتها من مبيعات الطاقة في اقتصاد الولايات المتحدة في صورة شراء سلع وخدمات وسندات خزانة. والريال السعودي مرتبط بالدولار عند سعر ثابت منذ سنوات هو 3.75 ريال للدولار. وتستثمر المملكة جزءا من احتياطي النقد الأجنبي وقدره 690 مليار دولار في سندات الخزانة الأمريكية. ونتيجة لذلك انتعشت التجارة وبلغت قيمة السلع والخدمات الامريكية المصدرة للمملكة 17 مليار دولار في عام 2011 وبلغ الاستثمار الامريكي المباشر هناك ثمانية مليارات دولار في عام 2010. وقال مسؤول سعودي "العلاقات التجارية الخاصة بالتجارة او النفط لن تتأثر بالمرة. السعودية لها علاقات متباينة مع عدة دول ولا تزال مع هذا تتعامل معها تجاريا. هذا مجرد شقاق سياسي ليس معناه انه سيؤثر على الأعمال الخاصة أو العامة." وقالت ادارة معلومات الطاقة الامريكية ان 15 في المئة من صادرات النفط السعودية وجهت للولايات المتحدة في عام 2012. ورغم أن الشرق الأقصى حصل على 54 في المئة من صادرات السعودية من النفط الخام مازالت المملكة تشغل المرتبة الثانية بعد كندا كأكبر مصدر للبترول بالنسبة للولايات المتحدة. وأحد مجالات الاعمال التي تعد فيها العلاقات السياسية مهمة هو مجال الطاقة النووية. فالسعودية تعتزم بناء عدد من المفاعلات في عقود ستجتذب على الأرجح شركة وستنغهاوس. وفازت شركات أمريكية في الآونة الأخيرة بعقود ضخمة لتصميمات هندسية وادارة مشاريع بينها شركة هيل انترناشيونال التي فازت بمشروع جبل عمر في مكة وقيمته خمسة مليارات دولار وشركة فلور كورب التي حصلت على مشروع كبير للسكك الحديدية وفوستر ويلر التي حصلت على مشاريع غاز ونفط. وقال اقتصادي خليجي طلب عدم ذكر اسمه ان الهيئات الحكومية والشركات السعودية الكبرى تفضل التعامل مع شركات معروفة لها. واضاف "ليس من السهل تغيير هذه الأمور فجأة لاعتبارات سياسية قصيرة الأجل. انها أمور مدفوعة بالسمعة والثقة والجودة." وعلى الرغم من ذلك فان على الشركات الامريكية ان تواجه حاليا منافسين من شرق آسيا التي تنافس للفوز بمشروعات سعودية وتنفذها جيدا. وفازت في الشهور الأخيرة شركات صينية وفرنسية والمانية ويابانية ومن كوريا الجنوبية واليونان بعقود للهندسة والبناء في مشروعات خاصة بالكهرباء والطاقة والبتروكيماويات والسكك الحديدية بمليارات الدولارات.
مشاركة :