“سيبيرياد” Siberiade أو “الملحمة السيبيرية”، فيلم كبير تم إنتاجه في العام 1979 في الاتحاد السوفييتي وتوفرت له إمكانيات كبيرة، وهو الذي فتح الطريق أمام مخرجه أندريه كونتشالوفسكي لكي يذهب للعمل في هوليوود، حيث أخرج بضعة أفلام لم تحقّق نجاحا كبيرا أشهرها فيلم “القطار الهارب”The Runaway Train الذي كتب قصته المخرج الياباني أكيرا كيروساوا، وقام ببطولته جون فويت وإريك روبرتس. ورغم أن كونتشالوفسكي (82 سنة) ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، ولد وعاش في موسكو، ودرس الموسيقى لمدة عشر سنوات وتخصّص في البيانو، فقد اتجه إلى الإخراج السينمائي وبرزت موهبته المتوهّجة منذ أول أفلامه الروائية الطويلة، “المدرّس الأول” (1965). أما “الملحمة السيبيرية” فهو أقرب ما يكون إلى قصيدة سينمائية مقسّمة إلى مقاطع، تبدو كما لو كانت نوعا من “السيرة الذاتية” رغم أن صاحبها لا ينتمي إلى تلك المنطقة الشديدة الخصوصية من بقاع روسيا التي تتميّز بطبيعتها الساحرة. والحقيقة أن سيبيريا مستقرة في أذهان الكثيرين باعتبارها منفى جليديا باردا وأراضي شاسعة جرداء، في حين يوجد فيها الكثير من المناطق الخضراء المليئة بالغابات، وهي البيئة التي تدور فيها معظم فصول فيلمنا هذا. ينقسم الفيلم إلى أربعة أجزاء تقع في 32 فصلا، تمتد لأربع ساعات و35 دقيقة. يحمل كل فصل منها عنوانا، كما يحدّد تاريخ الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. ويبدأ الفيلم في أوائل القرن العشرين، عام 1904 وينتهي قرب أواخر الستينات، أي أن أحداثه تمتد لأكثر من ستين عاما. تتركّز الدراما على حياة عائلتين في قرية سيبيرية تقع على هامش التاريخ اسمها “يلان”، ويروي قصة صراع، ولكن أيضا قصة حب. وبين القصتين قصة روسيا نفسها قبل وبعد الثورة الاشتراكية، مرورا بالحرب الأهلية في العشرينات ثم الحرب العالمية الثانية، ثم الانتقال إلى التصنيع بعد الحرب واكتشاف الغاز في سيبيريا في تلك القرية المهملة، وكيف سيغيّر الاكتشاف حياة البشر إلى الأبد. تاريخ البلد والإنسان ليس هذا فيلما من أفلام الدعاية السوفييتية، كما أنه ليس فيلما سياسيا رغم حضور المشهد السياسي فيه بقوة، ولكنه فيلم عن الإنسان- الفرد وسط تقلبات التاريخ، كيف تنعكس تلك التقلبات على مصائر الأفراد، كيف ينمو الحب ثم ينتهي دون أن يتلاشى، تاركا في القلب غصة، وكيف يكون الصراع الطبقي الخفي خلفية لقصة شبيهة بقصة روميو وجوليت، تصطبغ بالدماء، وبشراسة الانتقام، يتبعها الخروج من القرية إلى العالم المفتوح. إننا أمام عمل لا مثيل له، قورن لدى البعض بفيلم أمير كوستوريتشا “تحت الأرض” لكن يمكن مقارنته أيضا بتحفة برتولوتشي “1900”، وبالفيلم الألماني الملحمي “هايمات” (أو الوطن) Heimat لأدغار رايتز. إنه يروي تاريخ الاتحاد السوفييتي وما وقع فيه من تغيرات، ولكن من خلال الإنسان البسيط، الذي يعتقد أن لا دخل له في تقرير مصير كل ما يحدث، يصارع من أجل البقاء، ولكنه يجد نفسه رغما عنه، في أتون الصراع. وكما كان “1900” عن عائلتين تنتميان إلى طبقتين متمايزتين، هنا أيضا عائلتان: الأولى من الرعاة وقاطعي الأشجار، أي من الطبقة العاملة، والثانية من التجار والوسطاء، أي من البورجوازية الصغيرة. الأولى تتطلع إلى التغيير الذي تبشّر به طلائع الثورة السوفييتية، والثانية تميل إلى التشبّث بالوضع القائم. من العائلة الأولى يقع “كويا” في غرام “ناستيا” من العائلة الثانية. والد كويا العجوز “أفونيا” يقضي حياته تقريبا في الغابة، يشقّ وحده طريقا عن طريق قطع الأشجار. لا يهم إلى أين يؤدي هذا الطريق بل المهم أن “يخرج بعيدا عن هنا”، كما يقول، بينما يحذّره أحد رجال عائلته من أن هذا الطريق “سيؤدي مباشرة إلى لحية الشيطان”. كويا سيدافع عن حبه لناستيا وسيهرب معها من القرية، حيث يلتحق الاثنان بالثورة، لكننا لن نرى ذلك بل سنعرف فقط أن ناستيا ماتت عندما يعود كويا بعد سنوات إلى القرية ومعه ابنه “نيكولاي” من ناستيا. نيكولاي سيكبر وسيقع في حب فتاة اسمها “أناستازيا” قبل أن يذهب لينضم إلى الجيش ويخوض الحرب العالمية الثانية. وعندما يعود تكون الأمور على وشك التغيير الكبير في القرية وفي سيبيريا كلها. ليس من الممكن تلخيص أحداث هذا العمل المتعدّد الأوجه، المليء بالشخصيات والأحداث، والذي يحافظ رغم ذلك،على الخيط الأساسي والفكرة الرئيسية، بفضل المخرج المحنك، الذي يقود الأحداث متحكما في إيقاع الفيلم بحيث يمنحنا الإحساس بمرور الزمن، ولكنه لا يفقد فيلمه قط شاعريته وحسه العميق بالتاريخ وتعبيره عن مأزق الإنسان في التاريخ. التاريخ والفرد.. أو الفرد في إطار التاريخ، أحلامه وآماله وتطلعاته الشخصية المقدّر لها أن تنتهي دائما بالموت، أي عدم التحقّق تماما، أما البلاد فهي تمضي قدما إلى الأمام، تتجاوز جراحها وتطوي وراءها صفحة الماضي. لم يكن اختيار سيبيريا مكانا للأحداث، اختيارا عشوائيا بل مقصود تماما، ليس فقط لجمال الطبيعة وفطريتها وعذوبتها وكثافة ما يتولّد عن مناظرها من تأثيرات خاصة تشي بالماضي، بل ولأنها أيضا المنطقة التي الأكثر مقاومة للجديد، فقد خضعت طويلا للتقاليد والأساطير. هناك لمحات كثيرة من الواقعية السحرية في الفيلم: الفرخان الصغيران اللذان يظهران لأبطالنا في كل العصور وعلى مدى الزمن، وكأنهما يشهدان على ما يجري حولهما، لا نعرف ما إذا كانا حقيقة أم خيالا؟ الطيور التي تظهر في لحظات معينة، تطير وتتشكّل في أشكال هندسية بديعة في الفضاء وهي تصدح بالموسيقى. الخيال الذي يتسلّل إلى الواقع ويطغى عليه، من الكوابيس والأحلام والرؤى. الواقعية السحرية تكرار ظهور الفرخين، وتكرار ظهور الطيور التي تصدح في الجو، فكرة لحية الشيطان التي يؤمن سكان القرية بأنها مصدر الشر، لكن البطل الذي يتجسّد في ثلاثة أجيال يرى أنها مصدر للخير، وستكون مصدرا للنفط والغاز. ليس من الممكن نسيان مشهد من مشاهد الفيلم الأولى وكويا وأبيه وصديقته الطفلة، يدفعون زلاّجة ضخمة فوق الثلج وباقي أهل القرية يطاردونهم، يريدون أن يستمتعوا بركوبها أيضا، وسرعان ما نكتشف أنها قارب يمكنه الانزلاق على الثلج والماء، وهو مشهد يفيض بالحياة ويعبر عن الرغبة في التحرّر من أسر المكان وقيوده عند كويا البطل الصغير الذي سيكبر ويغادر. الشعر في الفيلم يمكن الإحساس به من التفاصيل الصغيرة التي تدخل في إطار الصورة الأكبر، بدلالاتها الخاصة، حديث الإنسان إلى الأشجار كما لو كان يحدّث روحا من أرواح الأجداد، يناجيها ويتعهدها بالرعاية. والتشكيل بالحريق: في وقت متقدّم من الفيلم عندما يلقي نيكولاي بقايا سيجارة مشتعلة في البركة القريبة من الغابة، تشتعل وتتفجر بالنيران في بؤر متعددة واحدة تلو أخرى. إنها تشي بما سيقع في المستقبل عندما ينفجر أنبوب الغاز بسبب الضغط العالي، لكنها تشيع في المشهد جمالية أخاذة.. تجمع بين النار والطبيعة، رغم ما ترمز إليه من استهتار الإنسان بالطبيعة. هناك أيضا اهتمام كبير بالتكوينات البصرية التي تبرز جمال الطبيعة وتضع الإنسان دائما في إطار المكان الطبيعي: التكوين: لقطة الموت في الحرب. في خضم الحرب ألكسي ينجو بينما يصاب معظم رفاق فصيلته. يحاول إنقاذ قائد الفصيلة، الضابط الممدّد على الأرض وسط الدمار مصابا، وإلى جواره مباشرة ماسورة أصيبت بقذيفة، يخرج منها سائل أسود يتدفّق في مقدّمة الصورة بينما يقبض بطلنا ألكسي على بطن البطل الذي برزت أحشاؤه ويستغيث بصوت عالٍ، بينما تتوالى القذائف في أرض مليئة بالوحل والطين تنتشر فيها أشلاء الجثث. إنها صورة “عضوية” لجحيم الحرب لا مثيل لها. "الملحمة السيبيرية" ليس فيلما من أفلام الدعاية السوفييتية، كما أنه ليس فيلما سياسيا رغم حضور المشهد السياسي فيه بقوة نيكولاي سيحاول استكمال حلم أبيه باستكمال شق الطريق في الغابة، لكنه سيهرم ويضعف ويموت ويتجمع الذباب والحشرات فوق جسده لتنهشه. أما ألكسي فسيغادر إلى الحرب وقبل ذلك يقيم علاقة حب سريعة مع “تاليا” التي تعده بانتظاره، وعندما يعود في الستينات كمهندس متخصّص في التنقيب عن البترول والغاز، يجدها بالفعل، لكنه لا يتذكرها تماما. أما هي فقد خرجت من القرية تريد أن ترى العالم، وجربت حظها فعملت على متن سفينة، لكن قدرها كان أن تعود إلى جذورها. وستكتشف تاليا أن ما كانت تنتظره لا وجود له، ولكن بعد فوات الأوان. الفيلم يبرز ما يدفعه الإنسان من ثمن وهو يواجه قوة عاتية من التحديث الصناعي تريد أن تقضي على كل ما يتعلق بماضيه وحاضره: ذكرياته التي تطارده، أجداده وآباؤه، الحب الذي لا يكتمل، الحبيبة التي تموت، الفراق المكتوب، القتل والتشفي، بيروقراطية الحزب في العاصمة لا يبدو أنها تتفهم طبيعة المنطقة التي تريد أن تبدأ الحفر فيها للكشف عن الغاز. سيطرح المهندس الموفد من العاصمة أمام سكان القرية: إما إغراق المنطقة بأسرها في بحر صناعي لتوليد الكهرباء بإقامة محطة هيدروليكية ضخمة، أو الحفر من أجل الحصول على النفط مع الإبقاء على الأرض. ولكن هل ستبقى الأرض؟ وماذا سيحدث للطبيعة.. للبيئة؟ وما الذي ستحدثه الحرائق التي ستندلع أيضا نتيجة أخطاء البشر؟ لقد قضوا على الطبيعة في النهاية مقابل الحصول على النفط، تلوثت البيئة، احترق البجع الجميل الذي رأيناه يمرح ويسرح في مشاهد كثيرة بحرية في المنطقة، وتم بقسوة تجريف مقابر الأجداد. لقطات من الأرشيف يستخدم أندريه كونتشالوفسكي الكثير من لقطات الأرشيف النادرة التي تربط بين فصول الفيلم المختلفة، تلخص أحداث الثورة السوفييتية ومنها اقتحام قصر الشتاء في سانت بطرسبورغ، ظهور لينين يقود الجماهير، ثم أحداث الحرب الأهلية، ثم الحرب العالمية الثانية التي لا يشعر بها السكان في تلك القرية السيبيرية، دخول القوات السوفييتية برلين، الاحتفالات الشعبية بنهاية الحرب، بدء خطط التصنيع الثقيل بعد الحرب، رائد الفضاء غاغارين يجوب العالم.. إلخ. “سيبيرياد” اكتشاف لقوة أداء وموهبة الممثل العملاق أندريه ميخالكوف (74 سنة)، الشقيق الأصغر للمخرج نفسه، وهو الذي يقوم بدور ألكسي، ببراعة، منتقلا في خفة بين الأداء الناعم حينا، والتأمل الحزين في المصير المنتظر لقريته حينا آخر. إنه الابن الضال الذي يعود إلى القرية، يبشّر أهلها بمستقبل أفضل، لكنه لا يستطيع أن يقف في وجه الآلة البيروقراطية الضخمة التي تفرض على المنطقة ما لا يريده الناس ثمنا للازدهار الاقتصادي. أندريه ميخالكوف سيصبح أيضا من كبار المخرجين الروس، وهو الذي سيخرج تحفا فنية مثل “العيون السوداء”(Dark Eyes (1987، و“حرقته الشمس” (Burny by the Sun (1994، وقد أخرج منه جزءا ثانيا في 2010، كما أنه صاحب الفيلم البديع “أورغا” Urgha (أو قريبا من عدن) الذي فاز بجائزة “الأسد الذهبي” في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1991.
مشاركة :