الدستور الأمريكي يعدُّ من أهم وأقدم الدساتير الديمقراطية المعمول بها في العالم، فهو ينص على نظام رئاسي مقيد ومراقب بصلاحيات واسعة لمجلسي النواب والشيوخ «الكونجرس». الرئيس لا يمكنه توقيع اتفاقات تترتب عليها نفقات أو التزامات مالية أو أمنية دون أن يقرها الكونجرس، ولا يمكنه إعلان الحرب من دون موافقته، وإذا أعلنها لسبب اضطراري فإن عليه أن يحصل على الموافقة خلال ستين يومًا إذا ما أراد الاستمرار فيها، ولا يمكنه أن يعيِّن من يريد في مناصب الدولة العليا دون مباركة مجلس الشيوخ. أما القضاء فهو بلا شك مستقل، إذ إن القاضي في محكمة العدل العليا بعد أن يختاره الرئيس ويوافق عليه مجلس الشيوخ، لا يمكن لأحد أن يعزله ويتم تعيين قاض مكانه فقط حال وفاته أو استقالته الطوعية، وهو ما يجعله مستقلا في قراراته إلا من آيديولوجيته بالطبع. لطالما كنت من المعجبين بالدستور الأمريكي، لأن الفصل بين السلطات فيه محكم بما لا يسمح بتفرد الرئيس في اتخاذ القرارات «كما هو حال بعض الأنظمة الرئاسية الديمقراطية» وبما لا يسمح بإلغاء الدور الرقابي للبرلمان «كما يحدث كثيرًا في الأنظمة البرلمانية خشية من سقوط الحكومة التي تمثلها الأغلبية». لكن هذا النظام الديمقراطي المحكم لم يجر تصميمه قبل أكثر من مائتي عام من أجل عموم الأمريكيين، ولكن لتنظيم و«سَلمنة» الصراع بين الأثرياء أي جعله سلميا، لذلك لم يكن عندما أقر الدستور عام 1789 مسموحًا فيه بالتصويت إلا للملاك الذين يدفعون الضرائب، وهؤلاء كانوا الأقلية، أما النساء والعمال والفلاحين والعبيد فلم يكن يحق لهم الانتخاب. الخوف من الصراع الطبقي وتطور النظام الضريبي بحيث شمل كل من له دخل هو ما فتح الطريق إلى شمولية حق الانتخاب. هذه الشمولية كان من المفروض أن تنتج رؤساء ونوابًا من الجمهور نفسه، لكن ذلك لم يحدث وتمكن النظام الذي صمم أساسًا لعقلنة الصراع بين أصحاب رؤوس الأموال ومنظِمًا للصراع فيما بينهم من الحفاظ على نفسه، ولذلك أسباب منها هيمنة هؤلاء على وسائل الإعلام وارتفاع تكاليف الحملات الانتخابية «مئات الملايين في الانتخابات الرئاسية» وإضعاف الاتحادات العمالية وتفكيكها، وفرض الثنائية الحزبية عمليًا على الجمهور الأمريكي، لأن كل من يريد توفير الأموال الضرورية لحملته الانتخابية عليه إما أن ينضم إلى الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، رغم أن الدستور الأمريكي لا يوجد فيه أحزاب سياسية، إذ نظر المؤسسون للدستور في حينه إلى الأحزاب بشكل سلبي، معتبرين إياها أداة لتقسيم المجتمع. اليوم يدور الصراع في أمريكا بين مدرستين من أصحاب رؤوس الأموال: مدرسة تشعر بأن الولايات المتحدة قادرة على تحقيق مكاسب اقتصادية أكبر من خلال إعادة صياغة النظام التجاري الدولي الذي كان معمولا به سابقًا، وأن بإمكانها ابتزاز أي جهة في العالم من خلال هيمنتها على الدولار، وعلى نظام المصارف الدولي، وبسبب العدد الكبير من القواعد العسكرية لها في دول العالم والتي تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة، وهؤلاء يمثلهم ترامب وهم موجودون في الحزب الجمهوري أساسًا، وآخرون يعتقدون بأن النظام التجاري الدولي الذي كان قائمًا مفيد بقوة لهم، لأنهم استفادوا منه ببناء شركات عديدة لهم عابرة للدول، وبالتالي هم يعتبرون أن تقييد العولمة فيه خسارة مالية كبيرة لهم. بين الفريقين تمكن يساريون من بناء قواعد لهم داخل الحزب الديمقراطي، وهم يسعون إلى إيجاد نظام سياسي واقتصادي أكثر عدالة ومن بينهم ساندي ساندرز واليزابيث ووارن وآخرون. حراك الحزب الديمقراطي لعزل ترامب لن يؤدي إلى عزله كما يعلم العديد ممن هم متخصصون في السياسة والحكومة الأمريكية، لأن مجلس الشيوخ يسيطر عليه الجمهوريون، وحتى يتم العزل يجب أن يتفق ثلثا أعضائه على عزله بعد توجيه الاتهام له من قبل مجلس النواب. اليوم لا توجد قضية في «العرف السياسي الأمريكي» يمكن الإشارة إليها على أنها جريمة كبيرة يجب محاكمته عليها وعزله. الدستور يقول إن الرئيس يُعزل في حالة ارتكابه جريمةً كبيرة، وهنا لا يوجد تفسير في الدستور لمعنى الجريمة الكبيرة، فالخيانة والاختلاس هي جرائم يمكن للجمهوريين أن ينضموا إلى الديمقراطيين بشأنها في قضايا العزل، لكن استغلال المنصب للضغط على دولة أخرى للتحقيق في جرائم محتملة لابن مرشح للحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية لا تعتبر في عرفهم جريمةً كبيرة، وبالتالي لا يمكن إيجاد قاسم مشترك بين الحزبين على هذه القضية. السؤال إذًا، لماذا يسير الديمقراطيون في قضية عزل ترامب دون أن يكون لهم فرصة في النجاح؟ في تقديري هنالك سببان: الأول: للتشويش على ترامب خلال العام القادم وهو عام الحملة الانتخابية وتركيز الضوء على فساده أمام الجمهور الأمريكي، وبالتالي دفعه إلى موقع الدفاع عن نفسه طيلة حملته الانتخابية. أما الثاني: فهو داخلي وخاص بالحزب الديمقراطي، إذ إن قيادات الحزب التاريخية لا تريد لليساريين تمثيل الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهم يريدون إعطاء فرصة أكبر لمرشحهم جو بايدن للفوز في المنافسة الداخلية من خلال تركيز الضوء الإعلامي عليه، باعتباره الشخص الذي استهدفه ترامب عندما ضغط على الرئيس الأوكراني للتحقيق في فساد محتمل لابنه «ابن بايدن». بلا شك أن انتخاب مرشح يساري لتمثيل الديمقراطيين ستكون له تداعيات كبيرة على النظام الرأسمالي الأمريكي، وهو ما لا يريده أصحاب رؤوس الأموال الذين يحكمون أمريكا منذ تأسيسها. { كاتب من فلسطين.
مشاركة :