التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي نعيشه الآن، جعل نظرتنا إلى الماضي القريب تشبه نظرتنا إلى العصور السحيقة، بسبب الفجوة الهائلة من حيث المعرفة والتحديات الجديدة التي تواجه البشر، ففي الوقت الحالي من القرن الواحد والعشرين نناقش إذا ما كان الإنترنت سيقضي إلى الأبد على التعليم المدرسي؛ أم أن المدرسة ستظل قادرة على تقديم ما لا يمكن تعليمه عن بعد، كالتربية والانضباط وخبرة الاحتكاك مع الطلاب والمدرسين. نظرة واحدة على مسلسل «ضمير أبله حكمت» من تسعينيات القرن العشرين، ستجعلنا نشعر بلا شك بتلك الفجوة، مع أن الفارق أقل من ربع قرن فقط. السؤال الذي يطرحه المسلسل ويدور في فلكه هو: ما الذي تفتقده العملية التعليمية، أهي الاستثمارات أم إعداد أفضل للمدرس، أم كلاهما معاً، وهو ما يقودنا أيضاً إلى سؤال آخر منطقي، هل البقاء والاستمرارية ستكون في صالح الأعمال الفنية التي تطرح قضايا سياسية واجتماعية في المقام الأول خصوصاً وأن هذه القضايا في تغير مستمر، أم أن البقاء سيكون من نصيب الأعمال التي تتناول الأزمات الفردية في معزل عن الظروف الأخرى، لأنها أزمات متشابهة باختلاف الزمان والمكان، وإن كانت أهمية أعمال النوع الأول تكمن في تأريخها لتلك الظروف، فأين هو الفرق الجوهري الذي يميزها عن الأعمال التسجيلية. بالتأكيد نحن لم نصل بعد في العالم العربي إلى مفترق طرق بين التعلم المدرسي والإلكتروني عن بعد، وبالتأكيد لا تزال أسئلة أبله حكمت قابلة للطرح، ولكن في ظل أن عدداً من جامعات العالم الكبرى أصبحت تطرح محاضراتها على الإنترنت مجاناً، بما يترتب على ذلك من تكافؤ الفرص بين الجميع في الوصول إلى المعلومة، وفي الوقت نفسه صعوبة التميز في سوق العمل لأن الفروق أصبحت تتلاشى، فإن ذلك الاتجاه في انتشار واسع المدى حول العالم أجمع، بل وأصبح هو البديل الطبيعي حتى في عالمنا لمن يعاني من معوقات تعليمية بمختلف الأسباب، مما يترتب عليه أنه وفي بعض الحالات، أصبح التحدي الجديد أمام المدرسين، ليس كما كان يؤرق حكمت هاشم مديرة مدرسة نور المعارف، ليس في جاهزيتهم الاجتماعية والمادية والنفسية للتدريس للطلبة، ولكن أصبحت في مجاراتهم في الوصول إلى المعلومات الجديدة، لجيل جديد ينشأ وفي يديه معلومات العالم كله متوفرة بلمسة واحدة من يده. في مدينة الإسكندرية عام 1991م يبدأ أول أيام العام الدراسي الجديد، ونتابع من خلال أولى حلقات مسلسل أبله حكمت وهي تستعد لليوم الأول، ومن خلال سيناريو أسامة أنور عكاشة نستمع إلى الكثير والكثير من الكلام الإنشائي الخطابي في حوارات من المفترض أن تكون حوارات عادية تدور بين المدرسين، حول أهمية حصة التربية الرياضية للطلاب، لأن العقل السليم في الجسم السليم، وحوارات أخرى مشابهة حول أهمية الفنون والانضباط، وغيرها الكثير من الخطابات التي تجعلك تشعر أنك تستمع إلى مقال صحفي أو منشور تعليمي خاص بوزارة التربية والتعليم، وليس إلى عمل فني يسرد حكاية السيدة التي اختار أن يعنون نفسه بها، ثم نتابع عدداً من المواقف والأحداث التي تشي بيوتوبيا مملة وساذجة عن السيدة الحكيمة ذات المبادئ والقيم والتي تتصرف على نحو ملائكي على الدوام، ثم فجأة من حيث لا ندري نجد أننا ننخرط أكثر وأكثر في مشكلات هذه السيدة وهؤلاء المدرسين، وكلما تقدم سير الحلقات كانت الأمور أكثر واقعية وإثارة للاهتمام، والأهم أن هالة الملائكية التي تحيط بأبله حكمت، تتراجع لتكشف عن سيدة من لحم ودم لديها الكثير من الأخطاء ونقاط الضعف. حكمت هاشم سيدة في أواخر الخمسينيات من عمرها، قاربت على الانتهاء من مسيرة وظيفية طويلة ومشرفة من العمل التعليمي، بدأت كمدرسة وأصبحت مديرة مدرسة مرشحة لنيل منصب وكيل وزارة، معروف عنها الانضباط الصارم في كل شيء، بدءاً بالقواعد المهنية والأخلاقية وليس انتهاء بالمواعيد، خلف كل ذلك امرأة تعاني من وحدة قاتلة وقلب مكسور من قصة حب لم يكتب لها أن تكتمل، وهنا تبدأ في الظهور الدوافع الإنسانية الحقيقية في رغبتها إلى النجاح، ليست المثالية الساذجة التي نلحظها من النظرة الأولى، ولكن في الطبقة العميقة من الشخصية، هذه سيدة تبحث عن معنى لحياتها، لم تختبر شعور النجاح كزوجة أو كأم، أشقاؤها انخرطوا في حياتهم بعيداً عنها، لم يعد لدور الأم/الشقيقة الكبرى معنى أو أثر أو دور حقيقي في حياتها، خمس سنوات كاملة تفصلها عن رؤية شقيقتها الصغرى، حسناً لديها صديقة واحدة وعاملة منزلية لا تكاد تسمع ما تقوله، فما الذي سيبقى لها بعد كل ذلك، ومن أين ستستمد الرغبة في مواصلة حياتها؟ الإجابة تكمن في تقديم نموذج مثالي مشرف في الحياة العملية، مدرسة متفوقين بامتياز، تشمل الكادر التعليمي الأفضل ربما في المدينة، وبأرقام قياسية في عدد الطلبة الحاصلين على المستويات الأكثر تقدماً في التحصيل العلمي على مستوى البلاد. في الطبقة الأعمق من الشخصية هناك تحدٍ قديم بينها وبين حبيبها السابق يصل إلى قرابة الثلاثين عاماً، وهي التي رفضت أن تترك كل شيء خلفها وتسافر معه في مغامرة غير مأمونة العواقب، والدوافع الحقيقية وراء ذلك القرار يظل هو السؤال الأهم في هذا المسلسل بأكمله، هل لأنها كانت تخشى المغامرة وترتكن إلى مستقبل وظيفي مضمون، أم أنها بقيت لأنها لا تثق مطلقاً في أساليبه غير الشريفة في التجارة وتفضل أن تعيش حياة زهيدة بعيدة عن الشبهات، أم أنها بالفعل لديها حلم حقيقي تسعى لتنفيذه عبر تقديم نموذج وقدوة حسنة في مجال التربية والتعليم، تحدٍ يكمن في إثبات أن قرار بقائها هو القرار الصحيح، وأنها ستنجح فيما تسعى إليه بعيداً عنه، وتحدٍ منه أنها ستفشل في كل شيء، وأن حياتها من دونه ستكون غير ذات معنى. كل ذلك ينفجر فجأة أمامها عندما تجد حبيبها السابق صلاح أبو رحاب أمامها في المنزل دون سابق إنذار، معلناً انتصاره الكامل بإخبارها أنه أصبح مليارديراً وليس مجرد مليونير، وأن أمبراطوريته الاقتصادية لا حدود لها، وعند ذلك الحد لا يبدو في الأمر من خاسر ورابح، فإن كان هو استطاع تحقيق ثروة مالية هائلة، فهي استطاعت تقديم مسيرة مهنية مشرفة يشيد بها وزير التعليم نفسه، وإن كان كلاهما قد خسر قصة حبه الحقيقية الوحيدة في الحياة، إذ لم يتزوج أي منهما، عند تلك النقطة يبدو كل شيء متعادل، إلا أن صلاح أبى أن يكتفي بتلك النتيجة، معلناً أنه لم تمر بعد بالامتحان، الامتحان الحقيقي. في هذا الجزء من العمل تتراجع أصالة التحدي قليلاً إلى الخلف، أن تضع ثروة هائلة بين يدي سيدة تعيش حياة عادية، ربما ليس هذا هو نوع الامتحان الحقيقي لها، بقدر أن تضعها في منصب وكالة الوزارة كما كانت تتمنى دائماً، لنرى إن كانت حقاً ستنجح في مواجهة وحش الفساد والبيروقراطية، أم أنها ستنهزم أمام إرث تاريخي من السلبية وفقدان الرغبة في النجاح على مستوى بلد لا يملك إرادة التقدم والتغيير، ولكن ربما لاعتبارات كثيرة جداً، فضل أسامة أنور عكاشة أن يكون الامتحان امتحاناً أخلاقياً، ما الذي ستفعله حكمت هاشم بهذه الملايين، وما الذي سيتغير فيها، في الحقيقة أنها لن تفعل بها شيئاً ولن يتغير بها أي شيء، فقط هذه الثروة كشفت لها القناع عن جميع من حولها، وهو الأمر المتوقع بطبيعة الحال، هنا تتراجع جميع خطوط المسلسل إلى الخلف وتصبح غير ذات معنى. الجزء الآخر المقدم بشكل ممتاز بخلاف دوافع حكمت هاشم إلى النجاح، هو رصد شبكة المصالح المعقدة داخل المنظومة المدرسية التي هي مجرد رمز لمنظومة مؤسسات البلاد بأكملها، ولو كان خرج السيناريو من حيز الفريقين المتصارعين في المدرسة بين حكمت هاشم ووكيلتها زاهية على منصب مدير المدرسة من ناحية، وبين حكمت والمنشاوي من ناحية أخرى على منصب وكالة الوزارة، إلى رحاب كواليس صناعة القرار والتحديات الحقيقية التي تواجه العملية التعليمية في مصر لبات صراعاً أكثر متعة وإثارة من مجرد طمع بعض الأقارب والأصدقاء في الأموال. من ناحية أخرى هناك الكثير من التعويل على فكرة الضمير في هذا المسلسل، فـ(ضمير) أبله حكمت هو ليس مجرد عنوان للعمل بل هو المحرك الأساسي لأحداثه، عندما تدبر كذبة بيضاء لجابر من أجل أن يعيد ابنته إلى المدرسة والتعليم بدلاً من المصير المجهول الذي كان سيلقيها إليه، فإن كلاً من حكمت/المسلسل يعتمد أولاً وأخيراً على استيقاظ ضمير هذا الرجل، وهو رهان لا يكفي للتعويل عليه، ولكن المسلسل ينتصر للضمير، في العديد من مشكلات المدرسين والمدرسات هناك تعويل ضخم في حل المشكلات على ضمائرهم، امتحان صلاح أبو رحاب الذي وضعه لحكمت هو لم يكن أكثر من مجرد امتحان لضمائر من حولها، وحتى عندما يعود إليها في نهاية المسلسل ليوضح لها مساعيه الحقيقية، يختار أن يبدأ حديثه بعنوان: (صحوة ضمير)، والضمير في المجتمع اليوتيوبي في المسلسل بالفعل كافٍ لحل كل شيء، ولكن تطبيقه على الأرض هو أشبه بالاعتماد على الحظ السعيد والصدفة الحسنة في أن تذهب الأمور إلى مسارها الصحيح، تخيل فقط أنه لو لم يكن لوزير التعليم في المسلسل هذا الضمير، لانتهت أحداثه منذ الحلقة الأولى على أقصى تقدير. في مسيرة فنية استمرت أكثر من ستين عاماً، قدمت فاتن حمامة من خلالها العديد من الأعمال السينمائية، الكثير منها أصبح من كلاسيكيات السينما المصرية، وبعضها أصبح ذا شهرة عالمية خاصة تلك الأفلام التي قدمتها مع المخرج يوسف شاهين، وفي تلك المسيرة الحافلة اختارت أن تقدم عملين فقط للدراما التليفزيونية، أولهما هو هذا المسلسل (ضمير أبله حكمت) والآخر بعنوان (وجه القمر)، كتب سيناريو أبله حكمت أسامة أنور عكاشة وقام بإخراجه إنعام محمد علي، ولا أحد يعلم على وجه الدقة مساحات تدخل النجمة الكبيرة في السيناريو، ليس في الأمر سر يذاع فهو الأمر السائد في العالم العربي، ولكن إن كانت رغبتها في تقديم عمل (تربوي وتعليمي) بحسب تعبير مخرجة العمل، فهل هذا يعني أنها المسؤولة عن تلك المشاهد الخطابية المملة في أنحاء العمل، وهل كانت هي مكمن الخلاف بينها وبين عكاشة قبل البدء في التصوير.. مشاهد من نوعية أن تقابل حكمت مشكلة أحد المدرسين بأسلوب درامي فني سردي مكتمل لا يحتاج إضافة، ثم نفاجأ بالمشهد التالي أن حكمت تقود سيارتها معلقة بطريقة خطابية أن مشكلة هذا المدرس هي كذا وكذا!، بعيداً عن ذلك وبعيداً عن إغراء التليفزيون في ذلك الزمان الذي كان يبث في عموم البلاد قبل سيطرة الفضائيات والإنترنت مما كان وسيلة إغراء لأي أحد في قول شيء ما، فإن فاتن حمامة في هذا المسلسل تقدم عصارة خبرتها الطويلة في العمل الفني، أداء فني رفيع المستوى، خصوصاً في تلك المشاهد التي نراقب فيها حكمت هاشم الإنسانة وليست المديرة الصارمة، يكفي أن ترجع إلى ذلك المشهد الذي تخبرها فيه صديقة عمرها أنها اختيرت لمنصب وكيلة الوزارة بدلاً عنها، لتدرك عن أي مستوى من الممثلات نتحدث
مشاركة :