منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) هي، بالواقع التاريخي وعلى مدار أزمانه، من أكثر التحالفات العسكرية في العالم قوة وفاعلية وعمرًا، لقد خرج الحلف من رحم معاهدة بروكسل الاوروبية عام 1948 والتي جمعت خمس دول، هي بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ تحت مسمي منظمة اتحاد أوروبا الغربية، الهدف الاساسي من إنشاء هذه المنظمة الاوروبية هو الخوف من التوسع السوفييتي، خاصة بعد حصار برلين والانقلاب الشيوعي في تشكسلوفاكيا والقلق حول الأوضاع في إيطاليا، مما حدا بوزير خارجية بريطانيا للتصريح بأن أفضل طريقة لمنع انقلاب اخر هي تطوير استراتيجية عسكرية غربية مشتركة. شعر الأوروبيون وهم تحت مظلة هذه المعاهدة الخماسية أنهم أضعف قوة أمام القوة العسكرية السوفييتية، فكان لابد من توسيع دائرة المعاهدة وانضمام الولايات المتحدة إليها، وهذا ما حصل فعلًا عام 1949. كان في عهد الرئيس ترومان، بطل النووي علـى اليابان، ووزير خارجيته المشهور جورج مارشال، مهندس مشروع مارشال الاقتصادي لإنقاذ أوروبا، وتمخض لقاء في البنتاغون عن معاهدة عسكرية جديدة ضمت سبع دول إضافية هي الولايات المتحدة وكندا والنرويج وإيطاليا والدانمارك وآيسلندا والبرتغال، لقاء البنتاغون خرج بمعاهدة عسكرية جديدة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وهي «منظمة حلف شمال الأطلسي»، ووقع الرئيس ترومان علـى المعاهدة في 4 أبريل 1949، وصرح الأمين العام الاول للحلف اللورد إسماي بأن هدف المنظمة هو «إبقاء الروس خارجًا والأمريكيين داخلًا وإسقاط الالمان»، ولم يكن هناك إجماع شعبي على الحلف، ولكن التطورات السياسية ثبتت من دعائم الحلف في العالم. كان الحلف عسكريًا من أجل صد آيدولوجية وليدة يمكنها اختراق الآيدولوجية السائدة تحت السقف الراسمالي، إذا ما توفرت الشروط الموضوعية لهذا الاختراق الذي من شأنه قلب الاوضاع وإزالة السقف الرأسمالي، إذًا فالهدف الاساس هو منع توفر تلك الشروط الموضوعية بالرغم من وجود منظومة دولية داعمة للتغيير الكبير بقيادة روسيا السوفييتية. استطاع الحلف أن يفعل استراتيجيته في الصد الايدولوجي إلى أن نقطة انهيار المنظومة (الاشتراكية!)، وتحول دولها إلى النمط الرأسمالي في الاقتصاد وإدارة الدولة، وعلـى رأسها روسيا التي تحولت من سوفييتية إلى اتحادية. ومع هذا التحول الكبير، اتحدت المانيا فصارت أقوى، وتمكنت من تحقيق استقلالية، أكثر من نسبية، في اتخاذ القرارات الوطنية الخالصة بها. كانت لألمانيا وضعية خاصة في الحلف، أثناء الحقبة السوفييتية وانقسام ألمانيا الـى غربية وشرقية، أُدْخِلَتْ المانيا الغربية في الحلف ولكن لم تكن لها صلاحيات بقية الاعضاء، ولكن بعد انتهاء الحقبة السوفييتية وولادة ألمانيا الموحدة، مع صعود الاقتصاد الألماني إلى الرتب العليا عالميًا، أصبح لها شأن آخر عالميًا وأوروبيًا وخاصة أمريكيًا. ألمانيا، في الحلف، من عضو شبه صامت إلى عضو يناكف ويتحدى، ففي القمة السبعينية واجهت الرئيس الامريكي بكل ثقة وصراحة قائلة بأن أوروبا ربما لم يعد بمقدورها الاعتماد على حليفتها أمريكا. المستشارة الألمانية ميركل بهذا الرأي الصريح تعبر عن واقع جديد، واقع أوروبا الجديدة بعد دخول دول المنظومة السوفييتية، وعلـى رأسها روسيا الاتحادية، إلـى النادي الاوروبي. مع هذا التحول الكبير توقع كثيرون حل حلف الناتو، ولكن الواقع الموضوعي في العالم ليس بهذه البساطة التي تختزل الارقام في عمليات حسابية أبسط بكثير من واقع معقد، فاستمر الحلف، وتحولت اهدافه واستراتيجياته، وشعر الاعضاء بان الكابوس قد زال، وأمريكا من جهتها تولد لديها شعور آخر، شعور ذات طموح عظيم، وهو أن الساحة العالمية أضحت في متناول اليد بتوسيع دائرة الحلف وأن الهيمنة العالمية قد أضحى ممكن التحقيق مع إعادة هندسة الاهداف والخطط، وكأن هدف الحلف انشق إلى هدفين، هدف أمريكي لاستغلال الحلف لاغراض امريكية بحتة، وهدف أوروبي لم يتحدد بعد معالمه، ولكنه حتمًا لا يتفق مع الهدف الامريكي. ولقد عبّر جون بولتون عما يدور في ذهن بعض القادة الامريكان عندما علق في إحدى المناسبات المتعلقة بمناقشات الامم المتحدة، وقال بصراحة ووضوح إنه لا يعرف ما هو «الأمم المتحدة» ولكنه يعرف جيدًا ما هي «الولايات المتحدة». بعد الحقبة السوفييتية وانتهاء الصراع الايدولوجي، حدثت تغيرات ارتقائية في الجانب الاقتصادي، تشكلت مجموعة النمور الاقتصادية الآسيوية، وصعدت الصين إلى المرتبة الثانية بعد أمريكا، وانتفضت روسيا الاتحادية واستعادت هيبتها العالمية عسكريًا وسياسيًا وإمكانيات اقتصادية كامنة واعدة، وأضحت دولة راسمالية تسعى جاهدة للدخول في المسابقات الاقتصادية العالمية، شأنها في هذا السباق التنافسي شأن بقية الدول الراسمالية العريقة، وهناك منافس اقتصادي هادئ صامت يعمل دون إعلان ولا إعلام ولا ادعاء، وهو الهند، الهند موجودة في حلبة الصراع الدولي، دون ضوضاء، وهي تمتلك القدرات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية وتنافس الصين بشريًا، كل هذا مع وجود اتحاد أوروبي يسعى لتبوء مكانة عالمية مستقلة عن وصاية الحليف الامربكي، مع ضرورة مراجعة العلاقة التي تولدت بعد الحرب العالمية الثانية، بين امريكا واوروبا. انتهاء الحقبة السوفييتية فتحت الابواب امام منافسات اقتصادية قد تتطور بعض تداخلاتها الى صراع حاد سياسي وعسكري. قمة الناتو 2019 في سبعينيتها جرت في أجواء غير متجانسة، بل شبه تصادمية، فالخلافات كانت متعددة وذات طابع استراتيجي عميق وحاد، فرنسا وألمانيا، الممثلتان للاتحاد الاوروبي، من جهة وأمريكا من جهة أخرى، وبينهما تتأرجح كل من بريطانيا وتركيا. أمريكا مصرة على زيادة النفقات العسكرية من بقية الاعضاء وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا، وتعتقد أنها مستغلة من قبل الدول الاوروبية، حيث انها تساهم بنسبة سبعين بالمائة من ميزانية الحلف، وأن الوقت قد حان لتخفيف العبء المالي عن كاهلها. بينما أوروبا وعلى لسان الرئيس الفرنسي ترى أن هناك مشكلات استراتيجية عميقة تواجه الحلف، وهي أهم من قضية المساهمة المالية للناتو، وقد عبّر الرئيس ماكرون عن واقع الناتو بأنه ميت دماغيًا، بمعنى أن الحلف ليس في وارد التفكير في قضاياه الاستراتيجية، وهي قضايا أكثر أهمية من أية قضية أخرى من أجل المحافظة على بنية الحلف وتماسكه ومباشرة مهامه المستجدة. أما المستشارة الالمانية ميركل فقد تناغم موقفها مع الموقف الفرنسي عندما صرحت بأن أوروبا ربما لم تعد قادرة على الاعتماد على حليفتها الولايات المتحدة. ورئيس الوزراء الكندي كان يقلل من شأن الرئيس الامريكي، وترامب من جانبه يرد بأن رئيس الوزراء الكندي ذو وجهين، ويلغي مؤتمره الصحفي الذي كان مقررًا عقده بعد القمة. أما تركيا فقد أخذ موقفها يبتعد بعض الشيء عن الحلف، خاصة مع صفقة الاسلحة مع روسيا، وهي صفقة تعتبر صفعة على وجه الناتو، إضافة إلى مساومتها مع الحلف بخصوص حماية منطقة البلقان، وقد اشترطت تركيا على الحلف دعمها أولًا ضد الجماعات الكردية المسلحة حتى توافق على خطة الناتو لحماية البلقان، وللعلم فإن هذه الجماعات الكردية تدعمها امريكا. يضاف إلى هذه الوقائع التي لا تخدم الناتو قضية التبادل التجاري بين امريكا واوروبا وفرض الرسوم الجمركية بينهما بمستويات غير مسبوقة، وهي قد تتطور إلى حرب تجارية بين الحلفاء. أما رئيس المجلس الاوروبي، دونالد توسك، فقد كان أكثر قسوة مع ترامب عندما غرد عبر (تويتر) بهذه الكلمات: «عزيزتي امريكا، يتعين عليك ان تقدري حلفاءك، لأنه لم يعد لديك عدد كبير من الحلفاء.»... وفي خضم هذا التلاطم من المواقف والتصريحات كانت روسيا حاضرة، فكان التعبير عن الموقف تجاه روسيا مختلفًا ومتفقًا في الوقت نفسه، هناك من ينظر الى روسيا كونها الصديق اللدود، وهناك من ينظر اليها كونها العدو الودود، حتى ترامب على موعد قمة مع بوتين بعد قمة الناتو مباشرة، وألمانيا تعتمد بشكل رئيسي على طاقة الغاز من روسيا، وفرنسا تدعو إلى اعتبار روسيا صديقة وليست عدوة، بينما تركيا قد دخلت في تفاهمات مع روسيا وايران في سوريا، وأبرمت معها صفقة الصواريخ إس - 400، دون استشارة الناتو... والصين كذلك كانت حاضرة من منظور «كيف يمكن التعامل معها ؟». وهكذا خرج أعضاء الناتو من مسرح القمة وحلفهم يهتز على كرسي أوصاله مفككة... هذه هي بعض من أوجه الخلاف، أي جزء من كل، وهذه الأوجه حادة وحرجة، بين امريكا من جهة واوروبا من جهة ثانية، إضافة إلى الخلافات بين الدول الاوروبية فيما بينها، خاصة الخلاف البريطاني مع الاتحاد الاوروبي والمعضلة البريطانية مع الانسحاب من الاتحاد... أعضاء الناتو على وعي تام بأن الحلف في مأزق وأنه بعد مسيرة سبعين عامًا من النجاح يقف حائرًا أمام مفترق طرق، وهذا المفترق الذي تتعدد طرقاته، ليس فيه طريق يؤدي إلى موته النهائي، رغم موته الدماغي! فجميع الطرق هي مسارات لخيارات تختلف فيها الرؤية والرؤى. إن بقاء الحلف بمزيج ايجابياته وسلبياته ضروري من أجل تفادي فوضى عالمية، ولكن هذا الحلف لا يعيش فقط قضايا استراتيجية عميقة، ولكنه يعيش حالة قدم الرؤية، فمراجعة الرؤية، لمواكبة المستجدات في القرن الحالي، أهم وهي الاسبق على معالجة القضايا الاستراتيجية، لأنه بعد الاتفاق على رؤية جديدة، فإن استراتيجيات جديدة ستنبثق من الرؤية الجديدة. الكثير من السياسيين والمحللين يتكلمون عن حرب باردة جديدة، وهذا المنحى من التفكير لا يتسق مع التحولات الكبيرة بعد حل حلف وارسو الذي أعقب انهيار المنظومة السوفييتية، ومع بروز مشكلات استراتيجية عميقة والحاجة الى رؤية جديدة، وتداخل العلاقات الدولية بانماط مختلفة ومغايرة لتلك التي كانت سائدة في مرحلة الصراع الراسمالي - الاشتراكي... إن خارطة العلاقات وطبيعة المشكلات الاستراتيجية التي برزت في القرن الواحد والعشرين تقتضي نمطًا جديدًا من التفكير يستبعد روح العداء ويلغي مفهوم العدو، ويفكر في البحث عن رؤية عالمية جديدة... ومن أبرز معالم الرؤية الجديدة هي الحفاظ علـى الأمن الاجتماعي العالمي، والسلام الدولي، واحترام القانون الدولي.
مشاركة :