يؤكد الصحافيون العراقيون أن الميليشيات المسلحة هي التحدي الرئيسي لحرية الصحافة في البلاد منذ سنوات. ومع بدء الاحتجاجات في أكتوبر الماضي، تحول التحدي إلى تهديد أكثر شراسة، وباتت التغطية الصحافية مهمة شديدة الخطورة تكلف الصحافي الاختطاف أو الاغتيال. والمدوّن العراقي شجاع فارس الخفاجي، أحد الذين تعرضوا للاختطاف، لكنه استطاع تخطي حاجز الخوف وتحدث عن عملية اختطافه من قبل الميليشيات المسلحة، فيما لم يجرؤ آخرون على التحدث عنها، وفق ما ذكرت مجلة فورين بوليسي الأميركية في تقرير لإغناسيو ميغيل بيلغادو كولبراس، ممثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لجنة حماية الصحافيين الدولية. وقال الخفاجي إنه بعد أيام قليلة من خطفه على أيدي ميليشيا عراقية في أكتوبر،”أخذوني إلى موقع بعيد يطل على نهر دجلة وسألوني عن عملي وعائلتي وحتى سيارتي… كانوا يعلمون أن لدي مدوّنة، وأنا متأكد أن هذا هو السبب الرئيسي لاختطافي”. ولاحقا، أطلق الخاطفون سراح الخفاجي، لكنهم هدّدوه بضرورة إبقاء فمه مغلقًا. لكنه اختار أن يمثل اسمه ويكون شجاعا للاستمرار في الكتابة عبر مدونته ومواجهة القمع الحكومي، رغم أنها مجازفة قد تكلفه حياته. وتتحدث مدونة الخفاجي، “الخوة النظيفة”، بشكل رئيسي عن السياسة والفساد في العراق. كما غطت الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة ضد البطالة، ونقص الخدمات الأساسية، والفساد الحكومي، وقد نشر لقطات لقوات الأمن وهي تستخدم الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين وصور المتظاهرين الذين تعرضوا للضرب. ما يكتبه الخفاجي، هو ما تحاول السلطات العراقية التعتيم عليه، وتتجنب جذب الدعاية للاحتجاجات. الصحافيون الذين غادروا بغداد يخشون التحدث علنا. ومن دون الإعلام أو الإنترنت، لن يعرف أحد ما يحدث في العراق فقد أغلقت شبكة الإنترنت مرارًا وتكرارًا، وتمت مداهمة وحظر هيئات البث، ومنع الصحافيين بالقوة من تغطية المظاهرات، تاركين العالم إلى حد كبير في الظلام حول مصير الملايين. وأدى رد الحكومة العراقية الأمني الصارم على الاحتجاجات إلى مقتل مئات من الأشخاص وجرح عشرات الآلاف منهم، وهو ما أشاع شعوراً بالخوف لدى الصحافيين من القوات المسلحة. وينطبق هذا بشكل خاص على جماعات الميليشيات المحلية، التي تزعم أن الصحافيين يحرضون على العنف. وتقوم الميليشيات المسلحة بـ”المهام الصعبة” أي الانتقام من الصحافيين والمدونين والناشطين ووضع حد لما يقومون به، من خلال طرقها الخاصة المنافية للقانون والتي لا تستطيع السلطات القيام بها. وتم الإبلاغ عن مقتل اثنين من الصحافيين حتى الآن. (كان العراق تاريخياً أحد أكثر الدول دموية بالنسبة للصحافيين، حيث قُتل نحو 188 منهم منذ العام 1994، وفقاً للبيانات التي جمعتها لجنة حماية الصحافيين). واحتجزت قوات الأمن صحافيين لفترات وجيزة، وضربتهم وصادرت معداتهم لمنعهم من تغطية الاحتجاجات. نتيجة لذلك، غادر العديد من الصحافيين بغداد إلى كردستان العراق أو إلى خارج البلد خوفاً من الميليشيات. وتقول جمانة ممتاز، عضو مجلس إدارة الاتحاد الوطني للصحافيين المستقلين في العراق، “يشعر العديد من الصحافيين بالاضطهاد. وقد غادروا بغداد لأنهم خائفون من الهجمات على المذيعين والمراسلين والاعتداءات واعتقال الزملاء. حتى أولئك الذين غادروا بغداد يخشون التحدث علانية. ومن دون وسائل الإعلام أو الإنترنت، لن يعرف أحد ما يحدث في العراق”. واعتمد العراق بقوة على الميليشيات التي تدعمها إيران في هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وبعد أن ساعدت هذه الميليشيات في طرد المجموعة من العراق في ديسمبر 2017، تم دمج قوات الحشد الشعبي؛ التي تضم معظم الميليشيات الشيعية، في القوات المسلحة الوطنية ووُضعت تحت السلطة المباشرة لرئيس الوزراء. وفي ذلك الوقت، عبر الصحافيون العراقيون عن قلقهم من تزايد النفوذ السياسي والاقتصادي للميليشيات والتهديد الذي تمثله لحرية الصحافة. ويمكن أن يؤدي الخوف من الميليشيات وإفلات الجناة من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين في العراق، إلى فرض رقابة ذاتية. وقد واجه الصحافيون في البصرة تهديدات بالقتل وتعرضوا للضرب والترهيب من قبل الميليشيات المحلية -مما أجبر العديد منهم على مغادرة البلاد- لمجرد تغطية الاحتجاجات التي ثارت في العام 2018 ضد تدهور مستويات المعيشة في المدينة، حيث أدى الغضب الشعبي من النفوذ الإيراني المتزايد إلى إشعال النار في المنافذ الإعلامية ومقرّات الميليشيات والقنصلية الإيرانية. وعلى الرغم من القمع الحكومي لحرية الصحافة والسحق الوحشي للاحتجاجات، قام المحتجون المعتصمون في ميدان التحرير ببغداد بإطلاق جريدتهم الخاصة في محاولة للالتفاف على تعتيم المعلومات ومجابهة القصص التي تنشرها وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي بالكاد تذكر الاضطرابات، وللتعبير عن مطالب المحتجين، بما في ذلك الدعوة إلى إنهاء النفوذ الأجنبي في العراق. وأدانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الأساليب القمعية التي تستخدمها الحكومة العراقية، وأيدا علناً حق المتظاهرين في التعبير عن مظالمهم، لكن على المجتمع الدولي أن يُخضع السلطات العراقية لمزيد من المحاسبة لمنع المزيد من سفك الدماء، ويجب أن يلجأ إلى تصعيد العقوبات وخفض المساعدات الخارجية والدفاعية إذا تواصل عنف الدولة ضد المتظاهرين ووسائل الإعلام. وكانت الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات الغربية قد غزت العراق في العام 2003 بهدف معلن وهو إقامة الديمقراطية. وتواصل هذه الدول تقديم مليارات الدولارات كمساعدات عسكرية لمحاربة الجماعات المتمردة في محاولة لإضفاء الاستقرار على البلاد، في حين أن تقديم دعم أكثر تصميماً واستمرارية للديمقراطية ومؤسساتها، بما في ذلك وسائل الإعلام الحرة وحقوق الإنسان، هو شأن ضروري لإضفاء الاستقرار على العراق.
مشاركة :