يلقى 70 في المئة من وفيات الجنس البشري حتفهم سنوياً، أي ما يعادل 41 مليون شخص، نتيجة الإصابة بإحدى أنواع الأمراض المزمنة غير المعدية، مثل أمراض القلب، والأمراض السرطانية، والسكري، والأمراض التنفسية، واضطرابات الصحة العقلية. هذه كانت الحقيقة الأساسية في تقرير تقدمت به المفوضية الدولية العليا للأمراض غير المعدية إلى منظمة الصحة العالمية بداية الأسبوع الحالي. وكانت هذه المفوضية الدولية قد أُعلن عن إنشائها في أكتوبر عام 2017، أثناء انعقاد المؤتمر السادس والأربعين لوزراء الصحة وواضعي ومنفذي السياسات الصحية في الدول الواقعة في منطقة شرق البحر الأبيض. ويترأس هذه المفوضية حالياً فريق مكون من رؤساء فنلندا وسريلانكا وأوراجواي، ووزير الصحة الروسي، بالإضافة إلى الدكتورة «سانيتا نيشتار»، وهي وزيرة فيدرالية سابقة في الحكومة الباكستانية، ومن الناشطين البارزين في مجال مكافحة الأمراض غير المعدية، وعملت سابقا رئيساً مشاركاً في مفوضية منظمة الصحة العالمية للقضاء على السمنة بين الأطفال. وتضمن التقرير الذي تقدمت به المفوضية منتصف الأسبوع الماضي، تحديثاً للتوصيات الهادفة للوقاية من الأمراض المزمنة، تتلخص في ثماني نقاط أساسية، هي كالتالي، أولا: تشجيع وتحفيز رؤساء الدول والحكومات على الإيفاء بالتزاماتهم بتوفير قيادة فاعلة، تشمل وتتضمن جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى قطاع الأعمال، ومنظمات المجتمع المدني، والعاملين في قطاع الرعاية الصحية، وأفراد المجتمع الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة غير المعدية وباضطرابات الصحة العقلية. ثانياً: توفير الدعم للجهود الرامية لتمكين الأفراد من انتقاء الخيارات الصحية، بما في ذلك خلق بيئة مساعدة على الحياة بشكل صحي، والعمل على إيصال المعلومات الحديثة والصحيحة لمن يرغبون في اتباع نمط حياة صحي. ثالثاً: تشجيع وتحفيز الدول على الاستثمار في جهود التحكم والوقاية من الأمراض المزمنة واضطرابات الصحة العقلية، كمتطلب أساسي للارتقاء برأس المال البشري، ولدعم النمو الاقتصادي. رابعاً: دعم مبدأ تضمين خدمات الرعاية الصحية، للعلاج والوقاية من الأمراض المزمنة واضطرابات الصحة العقلية، كمكون رئيسي وأساسي في نظام رعاية صحي يشمل جميع أفراد المجتمع دون استثناء، وبغض النظر عن جنسهم، أو عرقهم، أو دينهم، أو أعمارهم. خامساً: اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع سقوط أي من أفراد المجتمع في هاوية الفقر، نتيجة اضطرارهم لدفع نفقات الرعاية الصحية من مالهم الخاص، وذلك من خلال توفير حماية وضمان اجتماعي كافيين للجميع. سادساً: زيادة التعاون والتفاعل مع قطاع الأعمال الخاصة والحرة في مختلف القطاعات الاقتصادية، وتوفير الدعم الفني للدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية، تمكنهم من تنفيذ خطط وطنية كفيلة بمواجهة الأمراض المزمنة والاضطرابات العقلية. سابعاً: تشجيع حكومات الدول المختلفة على تنفيذ استراتيجيات لدمج وربط المجتمع المدني بهيئاته ومنظماته في جهود الوقاية. ثامناً: دعم وتأييد إنشاء صندوق يمول من الدول المانحة، لمساعدة جهود الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل في خفض العبء المرضي للأمراض المزمنة غير المعدية، ورفع وتحسين مستوى الصحة العقلية والنفسية. وتأتي هذه التوصيات في وقت يلاحظ فيه أن الأمراض غير المعدية التي ارتبطت في الأذهان لفترة طويلة بالمجتمعات الغنية، أصبحت تشكل عبئاً مرضياً يتزايد ثقله بمرور الوقت على كاهل شعوب الدول النامية والفقيرة. ومن الملاحظ أيضاً خلال العقود القليلة الماضية أن الأمراض غير المعدية قد بدلت ديارها المعهودة، بديار جديدة يفتقد سكانها المصادر المالية والنظم الصحية الكفيلة بدرء خطرها والحد من تبعاتها. ويرد جزء كبير من هذا الارتحال المرضي إلى عوامل قوية أصبحت قادرة على تشكيل الظروف الصحية في جميع بقاع ودول العالم، ومكنت الأمراض غير المعدية من احتلال مراكز متقدمة على قائمة أسباب الوفيات. ومن المنظور الاقتصادي البحت، إذا خصصنا بالحديث الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية، فتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن الاكتئاب واضطرابات القلق يكلفان وحدهما الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار سنويا. والثابت والمؤكد أنه من الممكن تخفيف هذا العبء الاقتصادي بشكل كبير، من خلال الاستثمار في خدمات الرعاية الصحية للاضطرابات العقلية، والتي يعتبر العائد على الاستثمار فيها من أفضل عوائد الاستثمار في مجال الرعاية الصحية، على صعيد تخفيف العبء المرضي بشقيه، الإنساني والاقتصادي. حيث يقدر أن لكل دولار ينفق على زيادة سعة ونوعية الرعاية الطبية المقدمة لمرضى الاكتئاب واضطرابات القلق، ينجح في تحقيق عائد اقتصادي بقيمة 4 دولارات، في شكل صحة أفضل، وقدرة أكبر على العمل، بإنتاجية أفضل. وهو نفس المنطق الذي ينطبق على باقي أنواع الأمراض المزمنة غير المعدية، والتي بخلاف الثمن الإنساني الباهظ الذي تحصده في شكل عشرات الملايين من الوفيات سنويا، تحمل أيضا في طياتها عبئاً اقتصادياً هائلاً.
مشاركة :