"ممالك النار" يثير غضب الأتراك من قراءة مغايرة للنسخة العثمانية

  • 12/21/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يقابل الأتراك أي قراءة مختلفة للتاريخ العثماني بحملات إعلامية غاضبة وهجوم على الجهة التي تقدم تلك القراءة كما لو أنها قد اخترقت محظورا دوليا أو نصا دينيا، وهذا ما ظهر بأكثر جلاء في التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأتراك في قضية الأرمن. ويتخوف الأتراك من أن تتحول إبادة الأرمن من مجرد مواقف معزولة يثيرها هذا المؤرخ أو ذاك، أو تحركها دوائر أميركية أو فرنسية كورقة ضغط على تنطع أنقرة في ملفات تخص علاقتها بالناتو أو التمدد الإقليمي في سوريا والعراق أو ليبيا واستهداف الأكراد كقومية تاريخية تحت مسوغ “الحرب على الإرهاب”، إلى محاكمة للتاريخ العثماني والمطالبات المتعددة بالاعتذار عن وقائع تاريخية واتهامات لها بارتكاب مجازر في دول سبق أن سيطرت عليها وسرقت خيراتها، وهو ما يعني فتح ملف الاحتلال التركي وما قد يترتب عليه من قضايا ودعوات تعويض كبرى. وتقر تركيا بأن الكثير من الأرمن الذين عاشوا في عهد الإمبراطورية العثمانية لقوا حتفهم في اشتباكات مع القوات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها ترفض الإقرار بسقوط هذا العدد الكبير من القتلى أو أن القتل كان منهجيا ويمثل إبادة جماعية. ويقول متخصصون في التاريخ إن تركيا تحاول أن تفرض واقعا شبيها بمعاداة السامية، تحت مسوغ “معاداة العثمنة”، يتيح لها أن تمارس الضغوط الشديدة على أي جهة يمكن أن تشكك في مرحلة ما من تاريخها العثماني ولو من خلال إعادة قراءة ذلك التاريخ في دراسات تاريخية أو في أفلام سينمائية أو مسلسلات تاريخية مثل مسلسل “ممالك النار” الذي بات يتعرض لحملة إعلامية ضخمة من وسائل الإعلام التركي أو من “مواقع صديقة” في المنطقة العربية. "ممالك النار" يحرق الأتراك يريد الأتراك فرض النسخة العثمانية من التاريخ كأمر واقع ومنع الآخرين، شركائهم في نفس التاريخ، من تناول وجهة النظر الأخرى، خاصة العرب الذين كانوا من أكثر الشعوب ضررا من النفوذ العثماني الذي امتد لقرون واضطروا إلى خوض حروب بالوكالة لفائدتهم، فضلا عن أن وكلاءهم المحليين تسببوا بشكل مباشر في استقدام الاستعمار الأوروبي إلى المنطقة. ورغم أن مسلسل “ممالك النار” محدود الحلقات، والوحيد الذي وضع على عاتقه وضع التاريخ العثماني تحت مجهر النقد، فإنه أثار موجة غضب عارمة في تركيا لأنه دخل منطقة يريد الأتراك أن تظل خاصة بهم، من ذلك أن المسلسلات التركية تضخم الإسلام التركي التاريخي بينما ترذّل التاريخ العربي والإسلامي الآخر، وتظهر الأتراك في صورة الأنبياء الأتقياء فيما العرب وملوكهم وأمراؤهم وقبائلهم خونة ومتقاعسون عن خدمة الدين. وتكفي إطلالة على الحلقات الطويلة المملة لمسلسل “قيامة أرطغرل” الذي يتغنى به الأتراك ليقف المشاهد على بناء تاريخ على المقاس يتم فيه تبييض جرائم القبائل التركية وتحويل غزواتها ومجازرها كجهاد فيما تتم شيطنة الأمم والأديان الأخرى التي ينتمي إليها من وضعهم المسلسل كخصوم تاريخيين للقبائل التركية. العثمنة الجديدة يتساءل متابعو المسلسل إن كان يجب على فرنسا أو أي دولة تنتمي إلى الفضاء المسيحي حاليا أن تحتج على تشويه التاريخ المسيحي كما تفعل وسائل إعلام تركية حاليا لمواجهة التأثير المحدود لمسلسل “ممالك النار” خوفا من نجاحه وظهور موجة جديدة من المسلسلات العربية التي تناقش التاريخ العثماني في الشرق العربي وشمال أفريقيا وتعيد كشف مخلفات الاحتلال على الثقافة العربية. ولم يكن المسلسل العربي “ممالك النار” مهتما بالهجوم على تركيا بقدر اهتمامه بإثارة الأسئلة لدى الشباب العربي الذي تسيطر عليه صورة الماضي ويريد استنساخها ولو بتسليم رقاب العرب للأتراك والإيرانيين بأثواب الماضي لإعادة بناء حاضر تابع تحت عنوان الخلافة أو الأمة الإسلامية، في عناوين تشرعن التدخلات الخارجية باسم الدين. ونشرت وكالة الأناضول الرسمية التركية حوارا مع المؤرخ التركي محمد مقصود أوغلو، مؤلف كتاب “التاريخ العثماني” الذي تُرجم إلى العربية والإنجليزية والألبانية ركزت فيه على خطر “ممالك النار”. ورغم أن “المؤرخ” اعترف بأنه لم يشاهد المسلسل ولا ينوي مشاهدته، فإنه فتح النار عليه وربطه بالاستشراق الغربي، ومحاولة التشكيك في الإمبراطورية العثمانية التي امتد حكمها لأكثر من ستة عقود. ونقلت الأناضول عن مقصود أوغلو أنه لم يشاهد المسلسل ولن يفعل، مضيفا أنه “إذا كان المقصود من الاسم بأن السلاطين حكموا بالنار أقول نعم إن حكمهم كان نارا لكن على أعداء الإسلام”. وأبدى استغرابه من “قيام دول بالعالم الإسلامي بتشويه صورة العثمانيين” في وقت “ينصف فيه كتاب غربيون كالبروفيسور ستانفورد شو التاريخ العثماني، في كتابه تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة”. تركيا تحاول أن تفرض واقعا شبيها بمعاداة السامية، تحت مسوغ "معاداة العثمنة"، يتيح لها أن تمارس الضغوط على أي جهة تشكك في مرحلة ما من تاريخها العثماني عمد “المؤرخ” إلى إرجاع العداء التاريخي للعثمانيين و”إنجازاتهم وحكمهم” إلى أنه كان “قائما على الشريعة الإسلامية”، وهو تبرير يحاول أن يضفي القدسية على التاريخ العثماني ليبدو أي نقد يوجه له، ولداعميه من “العثمانيين الجدد” وأولهم الرئيس رجب طيب أردوغان، وكأنه استهداف للدين والقرآن تماما مثلما تفعل الحركات الإسلامية المتشددة مثل جماعة الإخوان أو القاعدة وداعش، كلها تنظر إلى الماضي على أنه مقدس ولا يجب التجريح فيه وتحث على إعادة استنساخه في حياة العرب والمسلمين. ولفت مقصود أوغلو إلى أن محاولات التحريف التي تعرض لها التاريخ العثماني بدأت من الاسم عبر تبديل كلمة “الدولة العلية العثمانية” وجعلها “الإمبراطورية العثمانية”، واصفا تحريف الاسم بأنه “محاولة من الغرب لإبراز الدولة العثمانية كقوة استعمارية وإمبريالية مثلهم”. وتعمل تركيا على إحياء تراثها الاستعماري الطويل من خلال مسلسلات متعددة رصدت لها إمكانيات كبرى في محاولة لتبييض ذلك التاريخ من ناحية، وخاصة لجعل التمدد العثماني شمالا وشرقا وجنوبا نموذجا مغريا للأتراك الجدد الذين يخططون للعب نفس الدور وبأشكال مختلفة حاليا من خلال إعادة فرض النفوذ التركي على المناطق الواقعة تاريخيا تحت نفوذ الدولة العثمانية من خلال التدخل العسكري المباشر كما في سوريا وليبيا وقبرص، أو من خلال إحياء الآثار العثمانية وإعادة ترميمها والتسويق للمشترك الثقافي والديني. كما تضع الدولة العميقة ذات الهوية العثمانية التي أسسها أردوغان وحزب العدالة والتنمية كل علاقاتها وتدخلاتها تحت مسميات لديها علاقة بالتاريخ مثل إحياء نفوذها في دول البلقان، حيث تعيد أنقرة إحياء المعالم التاريخية والمساجد هناك. والمفارق أن تلك التدخلات ذات النزوع الاستعماري ترتبط وبشكل آلي بأحداث الماضي لتكتسب شرعية في الشارع التركي، من ذلك أن وكالة الاستخبارات التركية كانت على علم تفصيلي بمواقع جميع القرى والمدن التي يسيطر عليها داعش في شمال غرب سوريا، وتقول تقارير غربية إن هذا التمركز كان بتنسيق ومتابعة من تركيا الذي تربطه بمعركة مرج دابق، وهي المعركة التي وقعت قبل خمسة قرون، وسطّرت بداية هيمنة العثمانيين على المنطقة العربية، إثر هزمهم لدولة المماليك. توظيف الماضي تتحرك المؤسسات التركية التي تعنى بالدين والتراث (وقف الديانة، ومؤسسة تيكا مترامية النفوذ) في كل اتجاه لإعادة ترميم المساجد والآثار العثمانية لإضفاء شرعية على التدخل التركي الراهن في دول نفوذها التاريخي، وهو تدخل ناعم لا يصطدم بمشاعر الناس، وعلى العكس فهو يتقرب منهم ويبدو في نظر الكثيرين “تدخلا خيرا” خاصة في دول البلقان. وينظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى منطقة البلقان، التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، باعتبارها منطقة نفوذ وفناء خلفيا ويسعى إلى الاستثمار فيها سياسيا وثقافيا وحضاريا ودينيا واقتصاديا، لتعويض تراجع أدوار تركيا في الشرق الأوسط ولاستغلالها في أزماته مع أوروبا. كما يراهن الأتراك على ورقة المعالم الأثرية والقصور والمساجد العتيقة لاستعادة أمجاد العثمانيين في الجزائر، واستثمار تساهل السلطات مع هذه الأنشطة لتوسيع دائرة النفوذ التركي في البلاد، والأمر نفسه في تونس وبلدان عربية أخرى مثل الأردن، حيث يتسلل النفوذ التركي بشكل سلس وهادئ وبعيدا عن غضب النخب.

مشاركة :