تستضيف قاعة “المسار للفنون” في القاهرة حتى منتصف يناير القادم معرضا لأعمال الفنانة المصرية فاطمة العرارجي تحت عنوان “الإنسان والمكان والزمن.. ورحلة السبعة عقود”. وتنتمي الفنانة فاطمة العرارجي لجيل الخمسينات، وهو الجيل الذي حمل على عاتقه مسؤولية الاكتشاف والبحث عن هوية فنية محلية وسط تأثيرات طاغية من الأفكار والرؤى الغربية. وتعدّ تجربة العرارجي في مجال التصوير إحدى التجارب الملهمة للفنانات المصريات المنتميات إلى هذا الجيل والأجيال اللاحقة له، فهي تجربة متكاملة تحمل سماتها المحلية الواثقة والراسخة بقوة، كما تنطوي على ملامح تطوّرها وفرادتها. تخرجت فاطمة العرارجي من كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية عام 1955 والتحقت بهيئة التدريس فور تخرجها في الكلية نفسها، حتى ترأست قسم التصوير بها، وهي تنتمي إلى الموجة الثالثة في حركة التشكيل المصري بعد جيل الرواد وجيل الأربعينات. فرادة المنجز تميزت العرارجي كفناني جيلها بالتفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية، بداية من فترة الخمسينات وما تلاها من سنوات مليئة بالأحداث الفارقة، كالعدوان الثلاثي على مدينة بور سعيد، والحروب التي أعقبته. وخلال مسيرتها الفنية عكفت الفنانة على البحث عن هويتها الفنية كمصرية عربية وكإنسانة تعيش في عالم زاخر بالثقافات والأحداث، وأخيرا كامرأة تنظر إلى العالم من حولها بعين الأنثى. كل هذه المؤثرات صبغت تجربة الفنانة فاطمة العرارجي بطابع خاص يجنح إلى البحث والتجريب والتمرّد على الممارسات التقليدية، فانعكس ذلك على تطوّر تجربتها الفنية، بما يتضمنه هذا التطوّر من تأثيرات مختلفة. وهذا التصاعد الفني في تجربة الفنانة المخضرمة، بما يتضمنه من مراحل وانتقالات سلسة أو حادة أحيانا، هو ما يمكن أن نخرج به من هذا المعرض الذي يضم نماذج مختلفة لمراحلها ومحطاتها الفنية المتعددة. إذ نستطيع مثلا أن نلمح تردّدها بين التشخيص والتجريد، أو بين تمسكها بالمقومات الراسخة للعمل التصويري وتمرّدها في ما بعد على هذه التفاصيل والمعالجات التي اتسمت بها أعمالها في بداية التجربة. إنه معرض أشبه بسيرة ذاتية لفنانة من جيل الخمسينات، يحمل روح وعبق هذه المرحلة المفعمة بالطموح والبحث والتجريب والتأثير والتأثر. أولى هذه المؤثرات التي يمكن أن نلمحها في أعمال العرارجي تتمثل في استلهامها للفن المصري القديم في أعمالها الأولى. فخلال بحثها الدؤوب عن هويتها الخاصة في بداية مشوارها الفني اتجهت الفنانة إلى التنقيب عن سمات هذه الفنون القديمة، ساعدتها في ذلك إقامتها الطويلة في مدينة الأقصر الواقعة جنوب مصر، وهي الفترة التي قضتها هناك ضمن منحة تمنحها كلية الفنون الجميلة لخريجيها الأوائل. وفي مدينة الأقصر تشبّعت قريحة الفنانة بالمنحوتات الصخرية، والرسوم الملونة على جدران المعابد والمقابر، والطرز المعمارية التي تزخر بها عاصمة مصر القديمة، ففي كل شبر معلم أثري أو إشارة دالة على ما كانت تنعم به هذه المدينة من رخاء في غابر الأزمان. كان لا بد لهذه الأجواء أن تلعب دورا في تشكيل رؤية الفنانة فاطمة العرارجي، ظهر ذلك التأثير على معالجاتها المبكرة للشخوص والعلاقات الخطية واللونية، واستمر هذا الأمر معها طويلا كخط مشترك يربط بين مراحلها اللاحقة في ما بعد. مع اهتمام فاطمة العرارجي الواضح بالفن المصري القديم، كانت لها دراسات جادة كذلك حول نماذج الفنون الأخرى التي عبرت على مصر، من فنون قبطية وشعبية وإسلامية، ثم ما لبثت أن تجاوزت كل ذلك إلى البحث عن مصادر أخرى للثراء البصري، فاتجهت إلى التعرّف على الفنون البدائية، والتي تظهر أحيانا في لمحات من أعمالها، كل ذلك وهي تضع في اعتبارها ما أنتجته البشرية من فنون معاصرة. ثراء بصري المحطة الأبرز في مسيرة فاطمة العرارجي الفنية تمثلت في رحلتها إلى إيطاليا في بعثة دراسية تجوّلت خلالها في أنحاء أوروبا، طالعت فيها عن قرب المنجز الحضاري الغربي في الفنون الحديثة. فكان لهذه المشاهدات والاحتكاك القريب بالمناخ الفني في أوروبا أثرها على رؤيتها الفنية، إذ صارت أكثر انفتاحا على ثقافات الآخرين، وهو ما ساهم في ثراء وغنى تجربتها التصويرية. ومن هناك، يقدّم لنا هذا المعرض ملمحا لكل التجارب التي مرت بها مسيرة العرارجي الفنية، إذ يمكن أن نطالع ذلك عبر عناوين لوحاتها، مثل “الشهيد”، و“المرأة والتطوّر”، و“الإنسان والكون”، و“المقاومة الشعبية”، و“جدران الزمن”، و“الصيادين” و“الأسواق الشعبية”. ولعل رحلتها إلى أوروبا ثم تجوالها في عواصم أميركا الجنوبية في ما بعد أهّلاها للدخول إلى مرحلتها الأكثر قوة من حيث المعالجة اللونية، والأقرب أيضا إلى روح السريالية، لتتسم أعمالها في تلك المرحلة بحلول غير تقليدية للتكوين والمعالجة اللونية للمساحة والعناصر، وهي المرحلة الأكثر امتدادا بين مراحلها المختلفة، والتي استمرت معها إلى اليوم. وتصف الفنانة تطوّر تجربتها الفنية قائلة “كانت العناصر تبدو في أول الأمر كمكونات موحية للبيئة المصرية، ثم ما لبثت أن تدرجت في التلخيص والاختزال أكثر فأكثر، حتى تحوّلت إلى رموز عضوية مثيرة للإيحاءات. بدت هذه العناصر في ما بعد أكثر تآلفا، في وحدة متسقة، تسبح في فراغ رحب غير محدود. هذا هو تصوري للفراغ الذي يوضح خصوصية الرؤية التي تنبع من الحاضر ولها امتدادات في الماضي وتطلعها للمستقبل نحو عالم أكثر إنسانية وإشراقا”. أقامت الفنانة المصرية فاطمة العرارجي خلال مشوارها الفني الذي يمتد إلى سبعة عقود الكثير من المعارض الفردية بدءا من عام 1958 بمتحف الفن الحديث، تلته عدة معارض بمتاحف الفنون الجميلة ومحمود سعيد بمدينة الإسكندرية، ثم قاعة أخناتون في القاهرة. وعُرضت أعمالها أيضا في روما وباريس وموسكو والنمسا وطوكيو، وغيرها من المدن الأخرى حول العالم. كما مثلت مصر في بينالي ساو باولو بالبرازيل عام 1985 وغيرها من العواصم العالمية.
مشاركة :