الأحكام الفقهية.. شبهات وردود!

  • 12/22/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يسرف بعض المسلمين من المعنيين بهذا المقال على أنفسهم حين يقرأون النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة قراءة سطحية لا تكاد تغوص إلى أعماق النص للبحث عن دلالات اللفظ، وبهذا يقعون فريسة بعض الشبهات بسبب سوء الفهم أو قصوره، ومن الشبهات التي يقول بها بعض المسلمين قولهم: أن الخمر لم تحرم في الإسلام تحريمًا صريحًا بلفظ «حُرِمَتْ» كما جاء تحريم بعض النساء على المسلم كما جاء من مثل قوله تعالى: «حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورًا رحيمًا» (النساء/23). يقول المعترض: هذا البيان الواضح والصريح لِمَ لَمْ يكن كذلك في تحريم الخمر وجاء النص على تحريمها بلفظ «فاجتنبوه» ولم يأت بلفظ «حرمت»؟! ولو علم هذا المعترض شيئًا من علوم اللغة العربية، ودلالات الألفاظ فيها, لما ساق هذا الاعتراض، ولعلم أن من بلاغة القرآن، ودقة استخدامه للألفاظ, انه يستخدم اللفظ المناسب للمعنى المناسب، وهناك قاعدة نود الإشارة إليها وهي: أن كل اجتناب تحريم، وليس كل تحريم اجتناب، بمعنى: أن الاجتناب له علاقة وثيقة بالفعل وما له علاقة به من مقدمات، كذلك لفظ «لا تقربوا» يفيد شمولية التحريم، فنجد في المناهي ينهي القرآن الكريم عن مجرد الإقتراب فما بالكم عن الوقوع في المعصية كقوله تعالى: «ولا تقربوا الزنا..» فهل يعني هذا أن الزنا لم يحرم في الإسلام لأن التحريم لم يأت بلفظ «حرم» أي إنسان لديه شيء من العقل يقول بهذا؟ والآن لنعود مرة أخرى إلى مسألة الخمر، وحول استخدام القرآن الكريم لفظ «حرمت» عند حديثه عن المحرمات من النساء، وعن عدم استخدامه لفظ «فاجتنبوا» ذلك لأن النهي هنا فقط عن الزواج منهن أما الاجتماع بهن تحت سقف واحد، ورعايتهن وأن يكون الرجل محرمًا لهن في السفر، وأن يعتني بهن، بل يجوز له أن يرى من مواضع زينتهن ما لا يجوز لغيره ممن أباح الإسلام لهم الزواج منهن لهذا جاء لفظ «حرمت» مناسبًا لمراد الشارع الحكيم، ولو جاء التحريم بلفظ «اجتنبوا» لترتب على ذلك المقاطعة التامة، والمجانبة الكاملة، ولتقطعت العلاقات، وساءت الصحبة، ولتوقف العمل بأوامر البر والإحسان إلى من لهن من الحقوق علينا ما لا حصر له، ويكفي أن الحق سبحانه وتعالى قرن البر بالوالدين بتوحيده سبحانه وتعالى، فقال: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما» الإسراء/23. وتأملوا قوله تعالى: «عندك..» التي تفيد المصاحبة الدائمة، والملازمة المستمرة للوالدين، ولو جاء التحريم بلفظ «فاجتنبوا» لاستحال أن يتحقق شيء من البر بهما. فأي اللفظين أدل وأوفى لمعنى التحريم في مسألة الخمر كلمة «حرمت» أم كلمة «فاجتنبوا»؟ لقد أفاض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تحريم الخمر، ولعن عشرة ممن لهم علاقة بالخمر من قريب أو بعيد، فقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن في الخمر عشرة: [عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمُسْتري لها، والمُشْرى له] (الألباني/صحيح الترغيب/الحديث صحيح)، فهل هناك تحريم أشد وأبلغ من هذا التحريم، ولو قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): حرمت عليكم الخمر لحرم فقط شربها أو تعاطيها، وأبيح ما دون ذلك أو ما فوقه، ولكن حرص الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشديد على هذا التفصيل دليل قاطع على أن التحريم بلفظ «إجتنبوا» أشد من التحريم بلفظ «حرمت»، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم). إذا، فالنساء اللواتي جاء ذكرهن في سورة النساء حرم فقط الزواج منهن، أما باقي أمورهن مع الرجل: أبًا كان أو زوجًا، أو إبنًا أم عمًا أو خالاً، فأمورهن هذه مباحة بل واجبة ويأثم المسلم إذا قصَّر في واحدة منها. إذًا، فلفظ «حرمت» أوفى وأنسب لمعنى التحريم في هذا المقام من لفظ «اجتنبوا»، وان الحرام في هذا المقام مقصور فقط على الزواج منهن، وتدبروا قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما» الإسراء/23، وعلى هذا يكون من الفرائض التي ينبغي على المسلم ألا يفرط فيها رعايته لوالديه وإن أشركا، بل حتى لو جاهدا ابنهما أن يكفر بالله تعالى، يقول سبحانه: «وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون» لقمان/15. إلى هذه الدرجة العظيمة اعتنى الإسلام بالوالدين، وبالغ في الحض على الرعاية لهما، وبذل المزيد من البر بهما، ولو جاء التحريم في العلاقة بهما بلفظ «اجتنبوا» لتعذر القيام بواجباتهما، فهل أدركتم أيها المعارضون لحرمة الخمر الحِكَم الجليلة لهذا التنزيل العظيم؟ والآن دعونا نناقش القضية من منظور عَقَدي، فالآية التي تحرم الخمر تحريمًا قاطعًا وباتًا هي قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون» (المائدة/90)، فهل هناك عاقل لديه ذرة من العقل، فضلاً عن أنه يدعي الإيمان يقول: أن الأنصاب أي الأصنام لم تحرم في الإسلام لأن تحريمها جاء بلفظ «اجتنبوا». ولم يأت بلفظ «حرمت», لو قال بهذا مسلم لخرج من الملة ولوجب عليه أن يتوب ويجدد إسلامه، بل إيمانه، ولو قلنا بما يقول به المعترضون لما وجدنا بأسًا في أن نعبد الأصنام زلفى والتقرب إليها بشتى القربات فيما دون العبادة، ولاتخذناهم تجارة نقتات من ورائها. كما حكى القرآن عن الكفار في قوله سبحانه: «ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كَفَّار» الزمر/3. وتأسيسًا على هذا المثال نذكر حديث القرآن عن معصية الزنا، وكيف حرمها الله تعالى، وبأي أسلوب حرمها، قال سبحانه وتعالى: «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا» الإسراء/32. وهذه شبهة أخرى يروج لها من ضلت عقولهم، وقصرت أفهامهم عن إدراك عظمة البيان القرآني، ودقة اختياره للألفاظ المناسبة للمقام المناسب، والسؤال: لم اختار الله تعالى لفظ «ولا تقربوا» بدل لفظ «حرم»؟، لقد فعل الحق سبحانه وتعالى ذلك لأن سبيل الزنا والطريق الموصل إليه سيئ ويقود لا محالة إلى الوقوع في المعصية، فلم يحرم سبحانه وتعالى فقط المعصية، بل حرَّم أيضًا السبيل إليها، فكان لفظ «لا تقربوا» أوفى وأغنى من لفظ «حرم»، ورحم الله تعالى أمير الشعراء أحمد شوقي حين جمع الخطوات المؤدية إلى المعصية في ست خطوات، فقال في بيت من الشعر: نظرة، فابتسامة، فسلام فكلام، فموعد، فلقاء لهذا أمر الإسلام أتباعه بغض بصر الرجال عن النساء، وغض بصر النساء عن الرجال, لأن الإسلام في كل الأمور يتدخل في مرحلة النزوع، ولكنه فيما بين المرأة والرجل يتدخل منذ بداية الإدراك، فلا تدرك أيها الرجل حتى لا تجد في قلبك حبًا ورغبة جارفة لا تملك لها دفعًا، ولا تستطيع التحكم فيها، فتقع فيما نهاك الإسلام عن الوقوع فيه، فالآية الجليلة من سورة الإسراء لا تتحدث فقط عن الوقوع في المعصية، بل هي تتحدث أيضًا عن السبيل الموصل إليها، ولهذا جاء التحريم بالنهي عن مجرد الاقتراب، فما بالكم بالمعصية ذاتها، إذا فالتحريم بعدم الاقتراب أشد وأبلغ من التحريم بـ«حرم»، وعلى هذا نقول: «كل نهي عن الاقتراب تحريم، وليس كل تحريم نهي عن الاقتراب»، كذلك نقول عن الفرق بين الاجتناب والتحريم: «كل اجتناب تحريم، وليس كل تحريم اجتناب». وبعد هذا ندرك أن هذا الكتاب المعجز هو كلام الله تعالى: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد» (فصلت/42)، وأن ما أثاروه من شبهات في أوامره ونواهيه مردود عليها، وهي لا تقوى على الوقوف في مواجهته فضلاً عن أن تؤثر في معماره البياني المعجز، وصدق الله العظيم: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون(32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)» . التوبة.

مشاركة :