قال لي قريب عزيز: لقد كشف الفحص الصحي الذي أجريه بانتظام، ويشمل فحص الألترا ساوند, عن وجود كتلة مشبوهة في كليتي. وللتأكد طلب الاستشاري الذي حوّلوني عليه إجراء فحص الأشعة المقطعية «السي تي سكان». ويشك أن الكتلة سرطانية. والحمد لله أننا اكتشفناها قبل أن يصبح حجمها مستشريًا والعلاج متعذرًا. قلت: فعلاً، أنت محظوظ، والحمد لله على تقدُّم تقنيات الفحص المبكر لمنع الكوارث الصحية. تذكرنا عندها أحد الزملاء رحمه الله. كان شابًّا متعلمًا ناجحًا في عمله، اكتشفوا لديه سرطان الدم في مرحلة متأخرة، تعثر فيها العلاج. ولشدة الصدمة المباغتة، ورفضه قرار الأطباء الفاجع، لجأ إلى «شيخ» مشهور، يسافر إليه أسبوعيًّا؛ ليقرأ عليه، ويرفع عنه ضرر «الحسد» الذي أكد له الكثيرون أنه السبب في مرضه المفاجئ. منذ بدأ التفكير والوعي بالذات أدرك الإنسان أن له جانبَيْن: روحًا وجسدًا. واختلفت تفسيرات البشر للعلاقة بينهما، واتفقت على أن كليهما معرض لحالات الصحة والمرض. ثم اختلفت التفسيرات مرة أخرى حول أسباب المرض. ففي حين أن مفهوم الاعتلال معروف منذ ابتدأ وعي الإنسان بجسده وأحاسيسه ككائن يتأثر ويتغير إلى الأفضل أو الأسوأ، وأن ما يمر به من الأحسن والأسوأ قد لا يكون متعلقًا بحالة الجسد بل يعني أحيانًا تلبّك الحالة النفسية أو الذهنية.. إلا أن الغارق يتعلق بأي قشة تعده بالنجاة. ولذلك ظل بعض الناس, حتى ونحن في عصر العلم, ينسب حالات المرض الفردي، بكل أنواعها، إلى سبب خارجي، كساحر أو حاسد، كما كان البدائيون ينسبون الأوبئة العامة إلى غضب القوى المعبودة كعقاب على الخطيئة والإثم. وفي كل الحالات كان العلاج بدائيًّا: خلطات أملاح ونباتات ذات مفعول مناسب, أو تدخُّل الساحر لإبطال مفعول السحر, أو يلجأ لمعونة الكاهن لاسترضاء الآلهة. اليوم نتعلم منذ الطفولة أن الاعتلال البدني تسببه مؤثرات عضوية أو وراثية، كلنا معرضون لها، ونلجأ للأطباء حين نفتقد الصحة. صار العلاج يتم على أيدي أطباء متخصصين، والدواء يباع في صيدليات مقننة, إلا أننا رغم تقدمنا في تفهم تفاعلات الجسد بين الصحة والمرض لم نحُلْ بعد كل أسرار وأسباب التأزمات النفسية, وظلت تفاعلات النفس على المستوى العام عالمًا خاضعًا لتفسيرات غير علمية؛ وهو ما سبَّب التباسات فظيعة في تفهُّمنا لحالات التقلبات النفسية أو الارتباكات الذهنية. لبناء مجتمع سعيد ومنتج ومستقر ومترابط لا بد أن تتوافر لأفراده ضروريات الصحة العامة بجانبَيها: الصحة الجسدية، والصحة النفسية، وبشطريها الوقائي والعلاجي؛ فالمجتمع السليم هو تفاعل أفراد أصحاء، لا تعيق حالاتهم الجسدية أو النفسية قدرتهم على الإنتاج المثمر والتفاعل البنّاء.. ولا تسبِّب إيذاءهم لأنفسهم أو إيذاء الآخرين نتيجة تهيؤات عابرة، أو تشوهات نفسية كامنة. كم من متسوق أو طالب أو سائح بريء راح ضحية إطلاق نار متعمد من مريض نفسي؟ وكم من إرهابي انضم لتنظيم قاتل كانت بذرة اجتذابه واعدة في جذور ميول سايكوباثية وسوسيوباثية؟ وكم من رئيس أو مستشار دمّر مواطنيه بحروب وقرارات منشؤها في استعداده شخصيًّا لجنون العظمة والبارانويا؟ هؤلاء مرضى يحتاجون لعلاج أو إيقاف.
مشاركة :