على مدى ثلاثة أيام وخلال إحدى عشرة جلسة خلال الفترة من 12 إلى 14 ديسمبر الجاري 2019 استضاف مركز السياسات للجنوب الجديد بالمغرب النسخة الثامنة لمؤتمر «حوارات أطلسية»، وعلى الرغم من كونه لقاءً اعتياديًا سنويًا يعقد منذ عام 2012 ويستهدف تعزيز الحوار الأطلسي مع دول جنوب المتوسط بما فيها الدول الإفريقية والذي شاركت فيه حوالي 500 شخصية من 66 دولة، بينهم رؤساء دول سابقون ووزراء وموظفون سامون وفاعلون سياسيون وخبراء وأمنيون ورجال اقتصاد، إذ جاء موضوع العام الحالي امتدادًا للعام الماضي بعنوان «ديناميات أطلسية: تجاوز نقاط القطيعة» وهو يتميز بأمرين الأول: مناقشة تقارير المؤتمرات السابقة، إذ شهد العام الحالي مناقشة التقرير السادس لحوارات أطلسية والذي شارك فيه نخبة من الباحثين من مناطق مختلفة من العالم، ويكتسب ذلك التقرير أهمية بالغة من طبيعة القضايا التي يتضمنها وتشمل قضايا الأطلسي وهي نظام ما بعد الولايات المتحدة، النظام التجاري القائم على قواعد فرص النجاة والدبلوماسية الثقافية ومستقبل الاتحاد الأوروبي، فضلا عن قضايا الجنوب وهي مؤشرات التوتر في غرب إفريقيا الساحلية والصين وإفريقيا في عصر الاضطرابات. الثاني: المشاركة الشبابية وهو تقليد دأب عليه منظمو المؤتمر ويستهدف إتاحة الفرص لعدد 50 من الرواد الشباب يمثلون 27 دولة وتم اختيارهم وفقًا لمعايير دقيقة إذ حصلوا على دورات تدريبية بالمغرب حول مفهوم القيادة قبل المشاركة في ذلك المؤتمر. ومع التسليم بأهمية ذلك المؤتمر الذي يستهدف بشكل أساسي- وفقًا لرصد تصريحات منظميه- إدماج جنوب المحيط الأطلسي ضمن النقاش الجيوسياسي العالمي في ظل ما يراه مسؤولو الدول الغربية من أن هناك تحديات عديدة تواجه دول جنوب الأطلسي ومنها القارة الإفريقية التي تواجه تحديات ديموغرافية، وسياسية واقتصادية، فضلا عن التنافس الدولي على القارة الإفريقية، فإن المؤتمر يعد فرصة في الوقت ذاته للتعرف على توجهات الدول الكبرى تجاه الجنوب والقارة الإفريقية على نحو خاص والتي أضحت محلا لتنافس محموم بين الدول الكبرى في العالم. وبنظرة تحليلية على مضامين حوارات أطلسية هذا العام نجد أنها تمحورت حول عددٍ من القضايا المهمة أولها: الحرب التجارية الراهنة بين الولايات المتحدة والصين وانعكاساتها على منظمة التجارة العالمية، والأهم مدى قدرة الاقتصادات الناشئة على التعامل مع هذا الوضع الذي يفرض تحديات هائلة خلال السنوات القادمة، وثانيها: تأثير التنافس الأمريكي - الصيني على فكرة التحالفات ذاتها، وهل يمكن للصين في ظل ذلك المناخ التنافسي بناء تحالفات مناوئة للولايات المتحدة الأمريكية؟ وهو الأمر الذي اعتبره أوليسجون أوباسانجو الرئيس النيجيري الأسبق مؤشرًا نحو تعددية عالمية. ثالثها: استمرار المخاوف الدولية بشأن تحدي الإرهاب وخاصة منطقة الساحل الإفريقي ومنها مالي والنيجر وعدم وجود استراتيجية متكاملة لمواجهة ذلك التحدي في تلك المنطقة. رابعها: التحديات التي تواجه التعليم في دول الأطلسي ودول الجنوب ويلاحظ أن تلك القضية قد استقطبت اهتمام العديد من المشاركين الذي تناولوها من اقترابات مختلفة إلا أنه كان هناك إجماع على ضرورة مواجهة تلك التحديات ومنها التسرب من التعليم، إذ أشار البعض إلى أن نحو 7 ملايين طفل غادروا المدارس في نيجيريا، بل إن حوالي 9% فقط من الطلاب في إفريقيا يتابعون مرحلة التعليم العالي ويعد هذا تحديًا هائلا يواجه القارة السمراء، كما أن قضية التعليم تواجه تحديات في دول الأطلسي في الوقت ذاته ولكن من منظور مختلف يرتبط بمسألة المساواة في الفرص وهي القضية التي أثارتها نجاة بلقاسم وزيرة التعليم السابقة في فرنسا. خامسها: تنامي ظاهرة «الشعبوية» في العالم والتي عزا المتحاورون نموها إلى أسباب عديدة منها العلاقة بين المواطنين وصانعي القرار، فضلا عن تأثير الثورة الرقمية على تنامي تلك النزعة والتي أجمع المتحاورون على أنها توجد في تيار اليمين وكذلك اليسار. سادسها: تقييم حرية التجارة العالمية والحاجة إلى نظام تجارة عالمي قائم على ضوابط جديدة من شأنها أن تتيح دورًا ما للدول النامية والاقتصادات الناشئة، بالإضافة إلى حاجة الدول النامية للتكيف مع الآثار الاقتصادية للعولمة. سابعها: استحواذ قضية الهجرة على اهتمام المناقشات إذ لوحظ أنها تحديًا يواجه دول الشمال والجنوب على حد سواء، بالنظر إلى الإشكاليات التي ترتبط بها وهو ما أشار إليه ريتشارد دانتزيجر، المدير الإقليمي لغرب ووسط إفريقيا في المكتب الدولي للهجرة، بالقول «إن الظروف الراهنة ليست مناسبة لأن يكون شخص ما لاجئًا» وقد توافق المشاركون حول حتمية دعم اللاجئين بكل السبل الممكنة، بالإضافة إلى تأكيد مبدأ تقاسم الأعباء لمواجهة ذلك التحدي. ومع أهمية تلك المناقشات التي تناولت عددا من القضايا والتحديات المشتركة التي تواجه الجانبين فإنه مما يلفت الانتباه خمسة أمور الأول: تحليل مخاوف كل طرف تجاه الآخر بنوع من الشفافية والمصارحة، فالمسألة لم تكن ذا اتجاه واحد بل لوحظ أن كل من الشمال والجنوب كانت لديه مخاوف محددة بشأن قضايا تثير قلق كل طرف تجاه الآخر وأتصور أن ذلك من شأنه أن يمهد السبيل نحو فهم أفضل لمستقبل مشترك يعزز من مناخ الثقة بين الجانبين ويضع أسس مهمة يمكن البناء عليها نحو عالم متكامل لا متنافس، بمعنى آخر فإن المؤتمر كان فرصة مهمة للغاية من أجل تبادل النقاش الصريح والمباشر حول التحديات التي تواجه شمال وجنوب منطقة الأطلسي الأمر الذي من شأنه أن يرسم ما يمكن تسميته بخارطة طريق مستقبلية للعمل المشترك بين دول شمال وجنوب المتوسط، والثاني: هو شمول وتنوع القضايا التي اشتمل عليها الحوار والتي تجاوزت قضايا تقليدية مثل الأمن والدفاع لتطال قضايا التجارة والتعليم بالإضافة إلى قضية الدبلوماسية الثقافية، والثالث: على الرغم من أن العديد من المشاركات قد عكست قلقًا كبيرًا بشأن التحديات التي تواجه دول شمال وجنوب الأطلسي فإن الحلول التي أثيرت لمواجهة تلك التحديات قد اتسمت بالجوانب العملية والواقعية بما يعني أنه حال الاتفاق على تنفيذ تلك الحلول فإن هذا من شأنه إحداث تغيير نحو الأفضل، والرابع: الطابع غير النمطي للمؤتمر إذ لوحظ أن النقاش قد اعتمد على كثير من الحقائق والأرقام بما يعني الرغبة في وضع حلول على أسس علمية صحيحة للتحديات المشتركة التي تواجه الطرفين، والخامس: فكرة الاستمرارية ذاتها إذ لوحظ أن المؤتمر يعد امتدادًا لقضايا تمت إثارتها من قبل في مؤتمرات سابقة، وبالتالي فإن المؤتمر ذاته يعد آلية لمتابعة تلك القضايا وتحديد أبرز مستجداتها بل والأهم اقتراح حلول عملية لمواجهتها. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :